السياسةُ في الاستبدادِ إلغاءٌ للسياسة

منصة 2022/06/22
...

 د. عبد الجبار الرفاعي
يتكلم المستبد كثيرًا بالسياسة والدولة والقانون والوطنية، ويشغل الناسَ بالشعارات الصاخبة، لكنه عمليًّا يعبث بالحياة السياسيَّة فيهشمها، ويبدد موارد الوطن بالنهب والحروب العبثيَّة، ويفكك الأسسَ المركزية للدولة.
المستبد غيرُ واقعي، المستبد لا يعرف منطق التسويات، المستبد لا يلجأ للحوار والتفاوض إلا في حالة الهزيمة والسقوط في مأزق قاتل،
 
بعد أنْ يخسرَ كلَّ شيء لحظةَ انسداد كل آفاق الحل الدبلوماسي العملي للأزمة، كما حدث في خيمِة صفوان عند هزيمةِ صدام حسين في حرب الخليج الثانية، وتوقيعه صك الاستسلام، ورضوخِه للتنازل عن كلِّ شيء.
تم توقيع وثيقة استسلام صدام حسين بعد تدمير العراق، بعد مغامرته الطائشة في احتلال الكويت وهزيمته الشنعاء أمام قوات التحالف في 3 مارس «آذار» 1991، في اجتماع خيمة صفوان بين ممثلي صدام حسين وقائد قوات التحالف الجنرال شوارتزكوف.
 
مهنةُ من لا مهنةَ له
السياسي الذكي هو الواقعي الذي يمتلكُ حكمةً وبصيرةً تمكنّه من حلِّ أزماتِ ومشكلات بلده في محيطه الإقليمي وفي علاقاته الدوليَّة بدبلوماسيَّة هادئة، وتجفيفِ منابع الحرب وحماية السلام، وتوظيف طاقاتِ المواطنين وموارد الدولة في البناء والتنمية المستدامة.
السياسةُ في الاستبداد مهنةُ من لا مهنةَ له. أما العلماءُ والخبراءُ المختصون في الدولة، والنظم السياسية والماليَّة، والإدارة، والاقتصاد ومختلفِ العلوم والمعارف الحديثة ذات الصلة، فلا حضورَ لهم في بناءِ الدولة وإدارتها، وإنْ حضروا لا يمتلكون سلطةَ اتخاذِ قرار، ويظلّ دورُهم هامشيًا، يضعهم المستبدّ حيثما يشاء فيما يشبه الديكور لسلطته.
المستبدّ يستثمرُ التراثَ والهوياتِ العرقيَّة والمعتقداتِ الدينيَّة وكلَّ ما يرسّخ تسلَّطه بدهاء، فيثير فزعَ الجماعات والطوائف ويستعدي بعضَها ضدَّ البعض في الوطن الواحد، بإذكاءِ الضغائن والأحقادِ الراقدةِ في الذاكرة العتيقة، وتفجيرِها بصخبٍ دعائي يثير غرائزَ الثأر والانتقام، ويزجّ الطوائفَ والإثنياتِ في نزاعاتٍ لا تنتهي، يجيّش فيها الكلَّ في مواجهة الكلِّ.
قوةُ الدولة في عالَم اليوم تعكسها قدرتُها على: تحييد الأعداء، واكتساب الأصدقاء، والاستثمارِ في العلوم والمعارف والتكنولوجيات الجديدة والذكاء الصناعي والأمن السيبراني، واستيعابِ المتخصّصين في مختلف العلوم والمعارف الحديثة وتوظيف خبراتهم في التنمية الشاملة. كما تعكسها قدرتُها على: تدبيرِ الاختلاف، وإدارةِ التعدّد، وحمايةِ التنوع، وحسمِ النزاعات المحليَّة والإقليميَّة بشكلٍ سلمي. 
 
الاستبداد وسر التخلف
سرُّ التخلف في وطننا العراق يكمن في تواصل الاستبداد، وتمويهه في التعبير عن نفسه بأنماطٍ وأقنعة ودرجاتٍ مختلفة، الاستبداد يضربُ كلَّ مفاصل الحياة ويحدث شللًا في كلِّ المؤسسات العامَّة والخاصَّة، ويحدث اختلالاتٍ في حياة الفرد والعائلة، تتسبّب في خلق شخصيَّة مأزومة. الاستبداد يتغلغلُ في النفس البشريَّة ويلبث قابعًا في أعماقها، ويترسب في البنية اللاشعوريَّة للمجتمع، ويعيد إنتاجَ العلاقات وكلَّ شيء على وفق ما يرمي إليه، بنحوٍ يجعل الناسَ مستعدين للاستعباد، ومذعنين للاستبداد بشكلٍ طوعي حتى بعد موت المستبد.
الاستبدادُ يبرعُ في الترويضِ والتدجين ولا يكترثُ بالتربية. 
في التربيةِ يكون الكائنُ البشري فاعلًا، في الترويضِ يكون الكائنُ البشري منفعلًا. 
التربيةُ تبتني على مسلّمةٍ ترى كلَّ إنسانٍ نسخةً ذاتَ تميّزٍ وفرادة، تمتلكُ طاقةً جوانيَّةً ينبغي أنْ تنبعثَ، كي تتشكّلَ شخصيتُه المستقلة. 
الترويضُ يبتني على مسلّمةٍ ترى الناسَ أشياءً تأخذ شكلَ القالبِ الذي تنسكب فيه، لذلك ينبغي أنْ يصيرَ الكلُّ نسخةً واحدةً، تتماثل ملامحُها، تتشابه مواصفاتُها، تحاكي خصائصُها غيرَها.
الترويضُ عمليةُ تدجين تنقضُ فلسفةَ التربية وأهدافَها في بناءِ الإنسان وتأمينِ سلامته النفسيَّة، وتكريسِ سكينته الروحيَّة، وإحياءِ ضميره الأخلاقي، وتحطيمِ أغلال عقله وفك قيود تفكيره. تنشدُ التربيةُ إيقاظَ الطاقة الكامنة في روح وقلب وعقل هذا الكائن، بينما ينشدُ الترويضُ تنميطَ شخصيته وسكبَها على شكلِ قالبٍ متحجّر لا يتبدل.
 
التلقينَ والتدجين
تعمل السلطةُ في الاستبدادِ على أنْ تعتمد التربيةُ في العائلة والمدرسة والمجتمع التلقينَ والتدجين. 
يشلّ التلقينُ العقلَ ويعطِّلُ التفكيرَ، ويطفئ الروحَ ويميتُ الإيمانَ الحرّ. بالتلقينِ والتكرار تظهر الأوهامُ والخرافات والأكاذيب كأنها حقائق. 
الحقيقةُ هي ما يظهره التكرارُ على أنه حقيقة، وما يحسبه الذهنُ حقيقة، وإنْ لم تكن كذلك في الواقع. 
معظمُ الصراعات والحروب والمجازر البشرية سبّبتها أوهامٌ وأكاذيب وسيناريوهات ومعتقدات افتعلتها أذهانٌ محترفة.
لا تنشدُ التربيةُ والتعليمُ في الاستبدادِ تعليمَ التفكير، وترسيخَ مبادئ الحقِّ في الاختلاف، والحقِّ في الخطأ، والحقِّ في الاعتذار عن الخطأ، بل تنشدُ تكريسَ الطاعةِ العمياءِ والإذعانِ والرضوخِ والعبوديَّةِ الطوعيَّة، عبر تنميطِ شخصيَّة التلميذ، وإنتاجِ نسخٍ بشرية متماثلة، تفتقد ملامحَها الشخصيَّة وبصمتَها الخاصة، فيتوالد الاستبدادُ بوصفه نتيجةً طبيعيَّةً لكلِّ ذلك. 
تشدّد كلُّ برامج وتعليمات وقرارات المستبدّ على ترويضِ الكائن البشري وتدجينِه على التكيّفِ الاجتماعي بالإكراه، ويعتمد في ذلك أداتين: التلقينَ الرتيب المتشابه المُمِل حدّ الضجر، والتخويفَ والعقاب الأليم والبطش على أية مخالفة مهما كانت صغيرة، وأحيانًا يتمادى المستبدّ في ذلك فيحاسب ويعاقب حتى على ما يخمنه من نوايا مضمرة. 
الأخلاقُ في الاستبدادِ استبداديَّةٌ، إنها أخلاقٌ يتوارى فيها الضميرُ الأخلاقي، بعد أنْ يخضعَ سلوكُ الإنسان لإكراهٍ يفرض عليه مواقفَ وسلوكًا مضادًّا يحجب ما يخفيه من قناعات. يشيع في الاستبدادِ النفاقُ السلوكي، الظاهرُ في شخصية الإنسان يُكذِّب الباطن، والباطنُ في الشخصيَّة يُكذِّب الظاهر. 
الاستبدادُ من أخبث خطايا السلطة، لأنه يفسد كلَّ شيء يستحوذ عليه، وهو بطبيعته لا يبقي شيئًا في حياة الفرد والمجتمع من دون أنْ يستحوذَ عليه.
تشيعُ في فضاءِ الاستبدادِ حياةٌ دينيةٌ مسجونةٌ بمعتقداتٍ ومفاهيمَ مغلقة، تتغلغل في الوعي واللاوعي الفردي والجمعي، وثقافةٌ دينيَّةٌ لا تعرف معانيَ الحرياتِ والحقوق. الإنسان الذي يعيش في نظامٍ مستبدّ يعيش قلِقًا خائفًا مذعورًا، وبدلًا من أنْ يكونَ الدينُ في حياته مُلهِمًا لطمأنينة القلب وسكينة الروح، ومصدرًا لإيقاظِ الضميِر الأخلاقي، يتحول الدينُ إلى مصدرٍ للتخويف والقهر والإذعان والتركيع والاكتئاب.
السياسةُ في الاستبدادِ إلغاءٌ للسياسة. السياسةُ فعلٌ مجتمعي، الاستبدادُ يختزل المجتمعَ كلَّه بفردٍ واحد، يحتكرُ كلَّ شيء بيده. يحيك المستبدّ نسيجًا متشابكًا متشعّبًا وعرًا مركبًا معقدًا للسلطة، يبدأ فيها كلُّ شيء منه وينتهي كلُّ شيء فيه، بل يختزل المستبدّ المجتمعَ كلَّه بشخصه، بنحوٍ يفضي فيه نحرُ المستبدّ إلى نحرِ المجتمع. 
 
المُستبدّ واحتكار كل شيء
المستبدّ يحتكر الفضاء العام، يحتكر كلَّ شيء في شخصه، يختصر الدين والثقافة والقيم والسياسة وكلَّ شيء فيه. الاستبداد حكم الفرد، يختصر هذا الفرد كلَّ شيء في حياة الناس بتفكيره ومعتقداته ورؤيته للعالَم وثقافته وقراراته، لا تفكيرَ خارجَ تفكيره، لا معتقدَ خارجَ معتقداته، لا رؤيةَ خارجَ رؤيته للعالَم، لا ذوقَ خارجَ ذوقه، لا ثقافةَ خارجَ ثقافته، لا قرارَ خارجَ قراراته. للسلطة المستبدّة بنية هرمية خاصة، تنتج نمطَ علاقات تسلطية في العائلة والقبيلة والحزب والجماعة والمؤسسة مثلما تنتجه هي أيضًا.
يتحول الماضي في الاستبداد إلى ماضي المستبدّ، الحاضرُ حاضرُ المستبدّ، المستقبُل مستقبلُ المستبدّ، الأيامُ أيامُ المستبدّ، الفرحُ فرحُ المستبدّ، الحزنُ حزنُ المستبدّ، الثقافةُ ثقافةُ المستبدّ، الآدابُ آدابُ المستبدّ، الفنونُ فنونُ المستبدّ. في الاستبداد تسودُ الرتابةُ والتشابهُ والتكرار، يغدو الزمنُ تكراريًا، الحاضرُ فيه يستأنفُ أسوأَ ما في الماضي، المستقبلُ فيه يستأنفُ أسوأَ ما في الحاضر. يبدأ كلُّ شيء من حيث انتهى، ينتهي كلُّ شيء من حيث بدأ، البداياتُ تكرّر النهاياتِ، النهاياتُ تكرّر البداياتِ. في الاستبدادِ كلُّ شيء يتكرّر، وتتوقف حركةُ التطور، لأنَّ قوانينَ التطور ينفيها الزمنُ التكراري. التكرارُ يبدّد الشغفَ في الحياة، وتندثر معه قدرةُ الكائن البشري على الخلق والإبداع. في الاستبدادِ يكون كلُّ شيء كفيلم يكرّر نفسَه آلافَ المرات، يتوقف الزمنُ الشخصي، ويمسي الإنسان كائنًا محنطًا.
السياسةُ فنُ إدارة التسويات، لا سياسةَ بلا تسويات، السياسي الواقعي يلتقط لحظةَ التسوية، الواقعيةُ السياسيةُ تعني البراعة في إدارة التسويات. منطقُ التسويات غائبٌ لدى المستبدّ، فهو إما أن يربحَ كلَّ شيء أو أن يخسرَ كلَّ شيء. غيابُ التسويات يعني غيابَ المضمون العقلاني للسياسة. السياسيُ الواقعي هو من يلتقط اللحظةَ المناسبةَ للتسوية. منطقُ التسويات غائبٌ لدى أغلب السياسيين في بلدنا، فهو إما أن يربحَ كلَّ شيء، أو أن يخسرَ كلَّ شيء.