أفلام عراقية تلاعبت بالزمن السينمائي وأبدعت

الصفحة الاخيرة 2019/03/26
...

حسين السلمان
 فيلم “أبيض” للمخرج حسين العكيلي، مثال طيب عما يوصف بخروج الزمن من السرد، هذا ما يبدو للعيان، لكني ارى فيه زمنا متحركا، خصوصا حينما يتحول الجدار الى عرض اجتماعي ـ سياسي، حيث تبرز لنا الشعارات التي معها ينتقل الزمن من مرحلة الى أخرى. 
  قدم الفيلم نقطة بلاغة كبرى وحالة اصطدام مع الفكر الانساني حينما يرمى الانسان مقتولا مع النفايات، والاكثر صدمة هو ان يرفع من دون  اهتمام وكأن الامر عاديا، وبذلك فقد الانسان (حيا أو ميتا) حرمة كرامته وانسانيته، هذه النبرة الحزينة في الفيلم ، لا تستمر طويلا، فثمة دعوى للسلام والالفة والمحبة، اذ يحدث تحول جذري ينقلنا من فكرة اجتماعية ناعمة بعض الشيء -عدا شعارات  متداولة في شتم الناس ووصفهم بالكلاب- الى شعارات أخرى تضرب في عمق الازمة العراقية حيث تبدأ مرحلة (يسقط...يعيش)، ثم السقوط الرهيب في مستنقع الطائفية التي كلفت المجتمع العراقي الكثير.
يختصر الفيلم مأساة وطن تحول الى جدار يرسم عليه ابنائه كل مآسيهم وحتى جرائمهم. وهذا ايضا ما قدمه فيلم “غليان” للمخرج ياسر الاعسم، على الرغم من ان الزمن هنا غير مشروط بأبعاده المتداولة في السياقات السينمائية التقليدية. ومن الظواهر الجميلة في هذا المجال ان فيلم “البنفسجية” للمخرج باقر الربيعي تضمن زمنا متداخلا مع الحدث، لكنه منسوج خارج إطار الصورة، بمعنى أن الزمن قد بدأ قبل بداية الزمن في الفيلم، فمنذ اللقطة الاولى يكون قد دخل معترك التفكير بالذي حدث قبل هذه البداية، وهذا يعني أن هناك زمنا مضمرا لم نشاهده على الشاشة، الا أنه استيقظ في ذهنية المشاهد، وهذا ما أجده كشكل متميز في تحريك الزمن خارج الصورة وخارج الحكي، لذا اين يمكن وضعه ضمن هذه الطريقة السردية: هل هو زمن ملغى...؟؟ أم زمن مركز...؟؟ هل هو زمن حقيقي...؟؟ أم هو زمن استرجاع، في تقديري ان الزمن هنا يدخل ضمن الاسباب الدرامية التي تمنح المشاهد سيلا من المعلومات التي يستفيد منهما في البناء الدرامي. هنا يمكن القول” ان الضغط العاطفي لا ينفصل عن الضغط الزمني “ فالزمن في السينما يتحرك بسرعة أو ببطء انسجاما مع وضع وحالة المتلقي من حيث توتراته ورغباته. 
يتميز فيلم غليان بحركة الرمز ( الفوران ، الغليان ) كما جاء اسم الفيلم ، هذا الرمز يمتلك من القوة المتوثبة التي لا تتناسق مع المرموز له في بيان تلك الحالة التي يكون فيها المرء قد دخل الى حالة مهمة من حالات النضج الكامل في اتخاذ القرار الحاسم،  إن هذا الغليان قد رأيناه رمزا استخداميا في العديد من الافلام وهو من  الشفرات الكلاسيكية في السينما، وهو رمز يكاد يكون قد غادرته حتى الرمزية ، ألا أنني أشعر بشيء من الالتصاق به في تكرار هذا الرمز ليكون باعثا جيدا في دفع حركة الموضوع وفي ضغط الاحداث، كما وأنه مناسب غاية التناسب مع زمن سينمائي كان بحاجة اليه،  فالصورة تظل هنا محتفظة بمعاييرها وخواصها بعد ما مرت بمراحل تطور عديدة، فأنتجت  محتواها الخاص. 
 فالسينما كما نعلم لها قدرة واسعة على التلاعب بالزمن، وقد جعلتها هذه القدرة ان تحدث انعطافا في عملية التتابع، ليس هذا فحسب، إنما تعدت الى صنع عدم ترابط مع السببية ايضا، ولذا فان التلاعب هنا يقترب من الوعي والاحساس البشري بالتعامل مع الزمن، ولهذه الخواص مجتمعة استطاع ان يكون الزمن عاملا دراميا كبيرا في السينما، وقد استفاد المونتاج من هذه الخواص ليعرض الزمن في ثلاثة أنواع هي: “زمن العرض: مدة الفيلم” و” زمن الحدث: زمن احداث الفيلم” و “زمن الادراك: الزمن محسوسا من قبل المشاهد”.
 وعند الحديث عن الاشتغال السينمائي مع الزمن، لا يمكن الا ان نستذكر ما قدمه المخرج هادي ماهود في فيلمه “العربانة “ من قدرة على السرد،  فمن خلال تلك المسيرة المضنية السوداء، يتقدم الزمن كوحدة بنائية مستقلة بعض الشيء عن بقية مفردات السرد،  وأجد أن هادي في فيلمه هذا يسير على خطى النحت في الزمن الذي رسمه تاركوفسكي، وان كان في أحيان يخرج عن تلك المسارات ويترك الزمن عائما من دون ركائز دلالية تعمل على ضخ الافكار والمفاهيم داخل الزمن ، ألا انها تظل تجربة ناجحة اقدم عليها المخرج بكل جرأة واقتدار، وفي تقديري هذا ما يجب أن يعمل عليه المخرج المجتهد لإظهار موهبته في العملية الابداعية في السينما .