المسؤول ومبدأ من أين لك هذا؟

آراء 2022/06/26
...

 د. سهام السامرائي
إن استغلال السلطة والاستيلاء على المال العام من دون وجه حق بمنصب أؤتمن عليه الموظف، ليس بالأمر الجديد؛ بل هي ظاهرة قديمة الأزل، كان الإسلام سباقا في مكافحة هذه الظاهرة الهدامة والآفة الخطيرة، والحد منها.  فالوظيفة كانت في صدر الإسلام لا تسند قبل تحري الدقة في كشف الذمة المالية للمسؤول وعائلته، قبل وأثناء توليه المنصب؛ لضمان نزاهة ونظافة أداء المسؤول في عمله، وهي واجبٌ شرعيٌّ ومسؤولية وطنية وأخلاقية. 
 وفي ظلّ شيوع ثقافة الفساد في زمننا الراهن هناك سؤالٌ مشروعٌ، يطرح نفسه ومن حقّ كلّ مواطنٍ أنْ يسأله، ومن واجب كلّ مسؤولٍ أنْ يُجيب عنه وهو: (من أين لك هذا؟).
هذا السؤال وضع قاعدته الفقهية نبينا محمد (ص) وتعامل به مع العمال، والولاة، والموظفين، وكلّ مَنْ تولى أيّ مسؤوليةٍ عامةٍ كانت أو خاصةٍ. فليس هناك أحدٌ فوق المُساءلة والعدالة والقانون، ومن حقّ الدولة أنْ تبحث عن مصادر التملك والثراء الفاحش الذي يظهر على الأفراد وتتحقق منه إنْ كانت مصادره مشروعةً أم غير مشروعةٍ وللموظفين جميعًا مهما صغرت أو كبرت وظائفهم؛ لأنَّ نهب المال العام يُعدّ جريمة اقتصادية واجتماعية وسياسية؛ فالشرائع السماوية جميعًا دعت إلى احترام المال العام، وحمايته، وحفظه، وحرمت نهبه وسلبه تحت أيّ ذريعةٍ كانت. 
 استعمل رسول الله (ص) رجلاً على الصدقة، فلمًّا قدم، قال: هذا لكم، وهذا لي، أُهدِي لي: فقام رسول الله (ص) وقال: ( ما بالُ عاملٍ أبعثهُ، فيقولُ: هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيهِ، أو في بيت أمّهِ، حتى يَنظُرَ أيُهدى إليه أم لا ؟ والذي نفسُ محمدٍ بيدهِ، لا ينالُ أحدٌ منكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحملهُ على 
عنقهِ). 
وتعامل الخلفاء بهذا المبدأ هذا عمر بن الخطاب يتابع إقرارات الذمة المالية للولاة والموظفين قبل التعيين في المناصب والوظائف في الدولة وبعدها، إذ كان: (إذا بعث عاملاً كتب ماله)، قبل أنْ يولّه المنصب، وإذا ولاه سأله عن كسبه وما كوّنه من ثروةٍ، ولمّا استعمل عمرو بن العاص على مصر (حاسب عمر بن الخطاب عمرًا، وقاسمه ماله، فقد كتب إلى عمرو: (أمّا بعد فإنّه بلغني أنّكَ فَشَتْ لك فاشية من خيلٍ، وإبلٍ، وغنمٍ، وعبيدٍ، وعهدي بك قبل ذلك أنْ لا مال عندك، فاكتب إليّ من أين أصل هذا المال، ولا تكتمه)، فكان جواب عمرو (إنّي أُعلم أمير المؤمنين أنّي ببلدٍ السعر به رخيص، وأنّي أعالج من الحرفة والزراعة ما يعالجه أهله).
فكتب إليه عمر: (أما بعد.. قد بعثت إليك محمد بن مسلمة، فشاطره مالك، فإنّكم أيها الأمراء جلستم على عيون المال، ثم لم يعوزكم عذر، تجمعون لأبنائكم، وتمهدون لأنفسكم، أما إنكم تجمعون العار، وتورثون النار، والسلام).
وكان سيدنا علي (كرم الله وجه) أول حاكمٍ في التاريخ يكشف عن ذمته المالية أمام المسلمين، ويُعرِّف لنا الخائن عندما نُصِّب خليفةً للمسلمين إذ قال: (أتيتكم بجلبابي هذا وثوبي هذا، فإنْ خرجت بغيرهن فأنا خائنٌ )، فالإمام علي كان يرى في نزاهة الحاكم الأثر الكبير في بناء حكومةٍ عادلةٍ تعمل بنزاهةٍ وأمانةٍ؛ لبناء حياةٍ حرةٍ كريمةٍ لشعبها. وتذكر المصادر التاريخية أيضًا أنَّ الإمام علي لم يقر في موازنة الدولة أيّ مبالغ مخصصة له؛ للقيام بوظيفته كحاكمٍ وأميرٍ للمؤمنين . 
فالمال العام له حساسيةٌ مفرطةٌ؛ لارتباطه بعموم الشعب ومساسه بمصالحهم ومنافعهم وحقوقهم، والتمادي والاعتداء والتجاوز على مصلحة العموم، لأجل مكاسب نفعية فردية يعدّ خيانةً وجنايةً شرعيةً وقانونيةً، والتغاضي عن المفسدين يجعل الباب مشرعًا أمام السراق للتمادي والفساد.
الفاسدون من الموظفين ممن استحلوا نهب المال العام ويستغلون نفوذهم السلطوي، في ظلّ غياب السلطة الرقابية، أصبحوا على غنى واسع لا يُعرف لثرائهم مصدرٌ سوى الخيانة واستغلال الوظيفة معروفين للناس وتتضخم ثرواتهم بالمليارات، بما لا يتناسب مع دخولهم الحقيقية، يواصلون فسادهم بعمليات نهب منظمةٍ ممنهجةٍ ويتمتعون هم وأسرهم بثرواتٍ مرعبةٍ غير مشروعةٍ؛ إنّكم قبل تسنمكم المنصب لا تجدون ما يسدُّ رمقكم، والآن تتربعون على قمم الثّراء غير المشروع؛ بل يتصدرون المشهد على الرغم من فسادهم المؤكد بالبينة والقرائن. فتاريخهم المالي يحكي أنْ لا عهد لهم بمثل هذه الأرقام المرعبة من ذي قبلٍ لا هم ولا أسرهم أو أقاربهم فمن أين لهم هذا؟