المثقف ومعضلة السلطة

آراء 2022/06/27
...

   ميادة سفر
 
شكلت العلاقة بين المثقف والسلطة معضلةً، أثارت كثيراً من الجدال والنقاش وما زال الحديث حولها جائزاً من عهد سقراط، الذي تجرع السم ولم يقبل بالمهادنة إلى يومنا هذا، سواء كانت السلطة سياسية أو دينية أو حتى مجتمعية "عادات وتقاليد وأعراف"، وما بين ذاك الذي ارتضى مهادنة السلطة والإذعان لها ولخطوطها الحمراء، وذلك الذي تحداها ووقف في وجهها وانتقدها، انقسم المثقفون وأصحاب الفكر تاريخياً، فبرز أولئك المرضي عنهم وعلت قيمتهم عند السلطات التي امتدحوها، بينما هُمّش المغضوب عليهم الضالين عن سراطها المستقيم، وأحياناً ألقي بهم في السجون، حيث لا أحد يسمع أصواتهم سوى جدران صماء وأرض باردة.
وحيث أنّ لكل سلطة مثقفيها وكتابها، الذي يردحون لها، ويعتلون المنابر يشيدون بها ويمجدون أفعالها وقراراتها، ويكتبون تاريخها المزور ويخترعون انتصاراتها الوهمية، هناك فئة من المثقفين الذين امتزجوا بالسلطة بشكل ما، وكان لهم دورهم في مرحلة من المراحل، مثل أندريه مالرو الكاتب الفرنسي، الذي أصبح وزيراً للثقافة في عهد ديغول، والمفكر العربي طه حسين، الذي أصبح وزيراً للمعارف في مصر، من دون أن تتمكن الحكومات والسلطات الذي شاركوا فيها من التأثير في أفكارهم وقناعتهم، بل إنّ طه حسين كان له أثر بالغ في تغيير المنظومة التعليمة في مصر.
في المشهد العربي انقسم المثقفون إلى مثقف مؤدلج بأيديولوجيا السلطة، فلم يعد النقد أحد مكونات وأسس فكره، وأصبح مستعداً للموت في سبيل بقاء هذه السلطة أو تلك، واعتبر كل من يقف ضد سلطته المدللة خائنا، ولا يجب أن يعطى أية مساحة أو منبر للحديث، وآخر وقف ضد السلطة لا يرى في حياته إلا النقد والرفض والازدراء وعدم قبول أي تصرف أو مبادرة أو قرار تقوم به، فالأول يعتبر أنه أكثر وطنية، بل الوطني الأوحد وكل من سواه خائن، والثاني يعتبر الأول الذي لا يعارض خائناً، بينما كان يتحتم على كلاهما النقد البناء ورؤية الأمور من منظور مصلحة البلاد، وتصحيح المسارات الخاطئة واقتراح الحلول المفيدة.
غير أنّ العلاقة التصادمية بين المثقف والسلطة، التي يتسم بها الواقع العربي الراهن لم تكن وليدة اللحظة، بل تعود جذورها إلى سنوات خلت منذ بدايات تحرر هذه الدول من الاستعمار، وعجز الأنظمة "قصداً أو عن غير قصد" عن التصدي للمشكلات التي يعاني منها الإنسان العربي والمتمثلة في غياب الديمقراطية، وانتشار الفساد وتقييد أو حجب حرية الرأي والتعبير، فضلاً عن سوء التعليم إلى غيرها من منغصات تمسه بشكل مباشر وتنخر جسم المجتمع والدولة، من هنا كان هذا الصدام وتلك العلاقة المتشنجة والمتوترة دائماً بين المثقف والسلطة، لينطبق على حالنا ذلك القول المنسوب لجوزيف غوبلز وزير الدعاية في ألمانيا النازية "عندما يقال كلمة مثقف، أتحسس مسدسي".
ثمة حقيقة لا بدّ أن نعترف بها وقد أثبتها التاريخ وأكدتها سيرورة الدول، ألا وهي أن أية أفكار سواء كانت فردية أو تشكلت ضمن حركة أو جماعة، لا يمكن أن تنجح وتتجسد واقعاً، من دون سلطة تدعمها، والأمثلة كثيرة لا مجال لذكرها، فلو تعاونت السلطات مع المفكرين، بدلا من أن تحاربهم، واستمعت لأصواتهم بدل كتمها، ولو لم يساير بعض المثقفين السلطة أو يهادونها ويقولون "فخار يكسر بعضه"، ألن يكون حال بلادنا أفضل؟ ولو لم تمنع الكتب التي تنتقد السلطات، ولم تغلق المحطات التي لا توافقها، ولو لم يلاحق المواطن على كلمة كتبها على صفحته على "الفيسبوك"، ولو منحت تراخيص المحطات التلفزيونية والإذاعية لتلك التي تدعو للتنوير، بدلا من التي تعود بنا إلى مجاهل العصور القديمة، ألن نكون خير أمة؟.