مظفر النواب.. سيل الأرجوان في جداول البساتين البعيدة

ثقافة شعبية 2022/06/30
...

 تحقيق: نوارة محمد 
بعد رحلة تخللها الكثيرُ من القصائد ومئات الأبيات في غربة مزدوجة عاشها الشاعر مظفر النواب بين منفى وسجن  تُرجمت بالقصائد لتصبح ملاحم شعرية ومدارس أدبية, غادر النواب عالمنا عن عمر ناهز الثمانين عاماً, النواب الذي اعتاد على أن يُبحر في الهم الإنساني ويغوص في إيقاظ روح التمرد  حملت قصائده صوت الضمير الحي الذي سرعان ما مارس دوره بالدعوة للتحرر والحرية، تلك القصائد التي حفظها الشبان من جميع الشعوب عن ظهر قلب عكست انتماءه وآراءه ومعتقداته ودوره في إحداث الحراكات الشعبية جماليا وأدبياً، بشعريته المتدفقة في قصائده الفصحى والعامية التي بدت علامته الفارقة، وأصبحت شعار الاستنكار، كلمات يتغنى بها الفتية والشبان تشعل روح المقاومة لديهم، مر اليوم أربعون يوماً حيث منفاه الأخير.
يرى الباحثون والنقاد أن دور النواب في قصيدة الفصحى لا يقل أهمية عن دوره في القصيدة العامية 
" عندما نقول أن مظفر النواب علامة فارقة في تاريخ الشعر العربي الحديث فإن قولنا هذا ليس نافلا مجانيا بل شهادة استحقاق لشاعر كبير لا يمكن تصور المشهد الشعري العربي بدونه. إذ شحن النص الشعري بدفق من الاحساس المفرط، والغضب المفرط، والجمال المفرط، فكانت النتيجة قصائد آسرة غاية في الادهاش الذي هو جوهر الشعر وغذاؤه الملكي. مظفر النواب أطاح بقوالب اللغة الجامدة واستبدلها بمفردات يومية متداولة فارتقى بها لتصبح مفردات شعرية.. ما من كلمة لا تصلح للشعر لدى النواب، كل ما يمكن قوله في الحياة يمكن  توظيفه في الشعر، هكذا تمكن من جعل القصيدة الفصحى طيعة وفي متناول القارئ البسيط غير النخبوي وبذلك كسر احتكار تعاطي الشعر واقتصاره على النخبة، من جانب آخر، النواب واحد من أبرز الأمثلة الشامخة على الشعراء الذين عاشوا على وفق المبادئ التي تبنوها ولم يتنصل منها في زمن تفنن فيه الآخرون في اللعب على الحبال، مظفر النواب عاش وعانى وخبر التنكيل والملاحقة ولم يترك ما آمن به وهذا بحد ذاته نادر على مر العصور" بحسب الشاعر والأكاديمي الدكتور هيثم الزبيدي 
التغيير الذي تركه النواب في القصيدة العامية، باللهجة الدارجة فتح أبواباً جديدة وشكل أنماطاً مُغايرة في بناء القصيدة بحسب الشاعر عامر عاصي كان "التغيير الذي أحدثه النواب في القصيدة العامية العراقية، معادلا لما أحدثه السياب والملائكة والبياتي في القصيدة الفصيحة، ذلك التناظر المتمثل في تحطيم المعادلة الإيقاعية شكلاً، ومعادلة الدلالات والتوظيفات الصورية النمطية، بناءً، هاتان المعادلتان اللتان انتجتا مضموناً مكروراً من الخطاب الشعري الرتيب الشحيح
 الشعرية".
ويتابع "إن الخرق الجمالي في المألوف، الذي أحدثه النواب في العامية العراقية فتح آفاق الحرية في البناء اللغوي وبالنتيجة استيعاب المخيلة أكثر فأكثر، فضلا عن المضامين الفكرية التي خرجت من عباءة التغريض إلى فضاءات الشعرية اللانهائية، واذا ارتبطت القصيدة العامية قبل النواب بالريف لفظاً أو مناخاً أو صورةً، فإنها بعد النواب أنتجت القصيدة المدينية، فضلاً عن كتابته القصيدة الريفية المناخ، ما يجعل تجربة النواب منجزاً حقق تطوراً مفصلياً في تاريخ القصيدة العامية العراقية وأنتج قصيدة التفعيلة العامية والنص المدور، المستند في مضامينه على ثقافة ووعي عاليين، ومكنون معرفي نفى تهمة الأمية عن النص العامي، وجعله في متناول النخبة العراقية والعربية". 
ويصف الشاعر ماجد طوفان ذلك التغيير الثوري الذي أحدثه النواب في القصيدة الفصيحة بأنه سيُخلد شاعر الوجع على حد تعبيره..
 "بصوتٍ عالٍ نحتَ النواب تجربته الشعرية، واثثَ لهذه التجربة الفريدة معماراً مدهشاً، جعله علامة "غريبة" بين مجايليه، فقد مسك بأزميله ونحت على الماء والأشجار والقمح والجبل والثورات والمناضلين، فأسس لصهيل نادر وضارب في عمق الدهشة، ففي "وترياته الليلية" تلاعب بالمفردة بشكل عجيب : (في تلك الساعة من شهوات الليل.. وعصافير الشوك تفلي الأنثى بحنين.. صنعتني أمي من عسل الليل بأزهار التين تركتني فوق تراب البستان الدافئ هناك بسكين)
إنه يرسم صوره بحداثة لا تنتمي إلا إليه، فقد جرَ أمه والعسل والليل والأزهار والتين في طابور واحد، وخلق جواً كسر به أي تراتبية متوقعة، وصور مظفر الشعرية لا تشبه إلا نفسها، ولا يصوغها إلا مظفر وحده، وهو بهذا المنجز المتعدد الاتجاهات تاريخياً وثورياً، والذائب في الغربة والمنافي والعشق يسير به مظفر بحكمة وحنكة عالية وشاهقة كما هو مظفر النافر عن الجميع . رحل شاعر البنفسج الفذ الذي خلف غيابه الكثير من الحزن والقصائد، لكن دوره في الثورة الشعرية سيظل خالداً.