الفلسفة والدوغمائيَّة

آراء 2022/06/30
...

 علي المرهج
الفلسفة فكرٌ حرٌ، ولا ينفع الفلسفة من يتمترس حول عقيدة ويعتقد بصدقها مسبّقا أن ينتمي للفلسفة، إلا من باب فرض المحال ليس بُمحال. الفلسفة فكرٌ حرٌ (يتحرك من جميع الجهات إلى جميع الجهات بقصد إلغاء الأبعاد) بتعبير أستاذنا (مدني صالح)، ولذلك هي تتضاد وتتناقض مع كل فكر أحادي التفكري، دوغمائي الحقيقة، والعجيب الغريب أن هناك بعض أساتذة الفلسفة في العراق والعالم العربي، يتمترسون حول عقيدتهم، ويفترضون حقانيتها، ويعملون على جعل القول الفلسفي أداة لهم لتبرير متبنياتهم العقدية.
الأدهى من ذلك هناك من يُسمون بأنهم فلاسفة، ولكنهم (دوغمائيون)، جعلوا العقل رهين مقولات حتمية لا قيمة له إن لم يستجب لها، وخذْ مثالًا على ذلك الماركسيين والوجوديين والوضعيين المناطقة، فكل من لا يؤمن بالصراع الطبقي بحسب الماركسية، إنما هو مرتبط بالرأسمالية ونزوعها الاحتكاري، وكل من لا يؤمن بأسبقية الوجود على الماهية الحرية الفردية، إنما هو لا يعرف قيمة الوجود الإنساني الحر، ولا تختلف الوضعية المنطقية في رفضها لكل تفكير لا يتساوق مع النزعة التجريبية البحتة، وعدت كل كلام خارج قدرتنا في التحقق التجريبي، إنما هو محض هراء، كلام لا 
معنى له.
السؤال هنا هل تمكنت الدوغمائيّة من الفلسفة؟، أقول نعم، وبمقدار حضور الأيديولوجيا في الفلسفة نجد الدوغمائية حاضرة وفاعلة، وقد لا نكون مغالين إن قلنا إن كل فلسفة العصور الوسطى إسلامية كانت أم مسيحية، إنما تمكنت العقيدة (الدوغما) من السيطرة عليها، وجعل العقل في خدمة الإيمان، ومن ثم (التوفيق بين الحكمة والشريعة).
مشكلتنا في الفلسفة الإسلامية أن العقل الفلسفي ليس حرًا، وهو يعمل ويفعل وفق المتاح، لأنه عقل منفعل بمحيطه الذي تُهيمن عليه النزعة الإيمانية، لذلك نجد مشكلة التوفيق بين (الحكمة والشريعة) هي أس اشتغال الفلاسفة المسلمين، وجل همهم منصبٌ على إثبات أن الفلسفة لا تتعارض مع الشريعة، إنما هما (الأختان الرضيعتان) ينهلان من منهل واحد، والحق لا يُضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له، بتعبير ابن رشد.
في الفكر العربي الحديث والمعاصر، نجد الفلسفة تحضر على استحياء، فكل المفكرين العرب الإصلاحيين، يدعون الناس إلى التفقه بعلوم الشرع أولًا، ومن ثم الإطلاع على الفلسفة ثانيًا، لأن التفقه في علوم الشرع يحميهم من الوقوع في ما لا يُحمد عُقباه!، لذلك نجد الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبد وخير الدين التونسي، وغيرهم من المفكرين الإصلاحيين، يخشون الفلسفة إن لم نرتكن للشرع ومعرفته قبل 
الشروع بها.
ولو أنعمنا النظر في المشاريع النهضوية للمفكرين العرب المعاصرين، أمثال: زكي نجيب محمود وطيب تيزيني وحسن حنفي ومحمد عابد الجابري وطه عبدالرحمن وصادق جلال العظم وغيرهم الكثير، لوجدنا مشاريعهم هذه تخضع لمشرط دوغمائي أيديولوجي عقائدي، وكأنهم يصنعون لنا (سرير بروكست) جديدا، ليحكموا على كل مخالف لهم بأنه لا يعرف شروط النهضة، التي ينبغي فهمها وفق أيديولوجيا كل مفكر منهم، وإن اختلفنا معه في النقد وعدم قبول رؤيته، فقد يحمل سيف (بروكست) قاطع الطريق الروماني ليقص رؤيتنا، لتكون على قدر تصور للنهضة المرجوة.
بعضهم يجعل الحنين للماضي واستعادة مقولات لفكرين ينتقيهم منه بحسب نزوعه الدوغمائي هو الحل لمشكل النهضة، وآخر يجعل من الماضي (وصلة قماش) جميلة، ينتقي منها ما ينفعه ليجعله منسجمُا مع مقولات الحاضر، وفق أيديولوجيا يجد فيها الحل الأمثل لمشكل التخلف في 
مجتمعنا.
هناك مفكرون دوغمائيون في فكرنا العربي الحديث والمعاصر، اعتقدوا أن مشكل التخلف عندنا يكمن في تمسكنا في الماضي، ولا حل لنا لهذا المشكل إلا بالخلاص من سطوة هذا الماضي (التراث) واللحاق بما قدمه الغرب من علوم حديثة كانت سبب نهضتهم، ولا حل لنا إلا بترك حمولة الماضي (التليد) واتباع أهل الغرب (المتقدم) ونحذو حذوهم (حذو النعل بالنعل) كما يُقال.
لا فلسفة فاعلة بوجود نزوع دوغمائي، وكل من يعتقد أنه يقرأ الفلسفة، وهو في قرارة نفسه يعتقد أنه ينتمي فكريًا لفكر يدعي أصحابه أنهم يمتلكون الحقيقة، فعليه أن يُغادر الفلسفة ويستريح من نزوعها الشكي 
النقدي.
كل دعاة الهيام بالقديم وعشقه والألفة معه هم دوغمائيون، وكل المناقضين لهم ممن يعتقدون بأن الخلاص من سطوة الماضي واللحاق بـ (الآخر) المختلف من دون شروط، إنما هم وجه المرآة الآخرـ يعكس دوغمائية متضادة شكلًا، ولكنها تتوافق معها 
مضمونًا.