الروس ذهبوا لكن الحياة الطبيعيَّة لم تعد بعد

بانوراما 2022/07/01
...

  كريستيان إيش 
  ترجمة: مي اسماعيل
 
سافر الرئيس الأوكراني “فلودومير زيلنسكي” لأول مرة عبر أرجاء وطنه الذي مزقته الحرب، بعدما بقي في العاصمة كييف لنحو ثلاثة أشهر؛ ولم يزر سوى بعض الضواحي القريبة. ذهب زيلنسكي الى خاركيف؛ شمال شرقي العاصمة، وتفقد رتلا من الآليات الروسية المحترقة والعمارات السكنية والمباني الحكومية المهدمة، ووزع ميداليات بين الجنود. كان من البدهي أن تكون الزيارة الأولى الى خاركيف؛ فهي ثاني أكبر مدن أوكرانيا، وقد استطاعت (كما العاصمة) صدهاجميعا. ولكن بينما تبدو الحرب بعيدة عن العاصمة؛ لم تتمكن خاركيف بعد من العودة الى أجواء الحياة الاعتيادية اليومية.. العدو قريب أكثر مما يجب؛ ففي دونباس المجاورة خسر الجيش الأوكراني أراضي لصالح الروس، وبات يخسر (وفقا لأقوال الرئيس) مئة جندي يوميا.. لذا فلا مجال للأوهام في خاركيف.   
 
غرس زهور نضرة
تعرضت محطة مترو “23 اغسطس” وسط خاركيف لقصف روسي مباشر بعد يومين فقط من استئناف العمل، مما تسبب بقتل بعض المدنيين واحتجاز آخرين تحت الأرض. فقد باتت محطات المترو ملاجئ من الغارات الجوية للمدينة بأكملها، وتطوعت “لاريسا باليوك” (59 سنة) لرعاية الأطفال في تلك المحطة، ولم تترك خاركيف منذ بدء الحرب. وبالنسبة لهذه السيدة، مثلما هو الحال لباقي سكان خاركيف؛ مثلت إعادة افتتاح المترو حدثا رمزيا يؤشر تجاوز المدينة للأسوأ؛ فالحياة تتحرك والمترو يتحول من موقع لجوء الى واسطة نقل. تناقص القصف مع انسحاب القوات الروسية شمالا؛ ولكن بعد قصف المحطة بدا وكأن إعادة التشغيل كانت متعجلة بعض الشيء. استمر المترو بالعمل؛ وكان عمدة خاركيف “إيهور تيريكوف” هو الرجل الذي قرر إعادة تشغيله. يقول تيريكوف: “إذا أوقفنا المواصلات العامة سيموت الاقتصاد، ولا بد من أن يتمكن الناس من الذهاب الى العمل”. نقل تيريكوف مقر عمله الى احدى محطات المترو لأغراض السلامة؛ إذ رغم ابتعاد القوات الروسية عن المدينة؛ فإن مدافعهم ما زالت قادرة على الوصول اليها، وقصفها من مسافة تقارب الأربعين كيلومترا. 
تقول ادارة المدينة إن نحو ثلث سكانها البالغ عددهم مليونا ونصف غادروها عند تقدم القوات الروسية؛ لكن نحو مئة ألف منهم عادوا منذ ذلك الحين. يبدو العمدة مسرورا بهم وراغبا بالاحتفال بعودة الحياة اليومية؛ بغرس زهور نضرة وتنظيف الشوارع. كما خطط لتشغيل النافورة في ساحة “الحرية” خلال عطلة نهاية الاسبوع؛ لكنه عدّل عن رأيه إثر تجدد القصف الروسي؛ خوفا من تجمع الناس وتعرضهم لمخاطر الإصابات فضلا عن الخسائر في الأرواح. هكذا أصبحت خاركيف عالقة في حالة غادرتها العاصمة كييف الآن؛ فالمتاجر مفتوحة والمقاهي مغلقة، ومباني الحكومة مدمرة لكن الزهور مزروعة حديثا. كل من يلتقط الصور يُعتبر شخصا مشبوها، والمدينة تصبح مهجورة عند المساء ويحطم صوت المدفعية الصمت بين حين وآخر. كانت الخسائر كبيرة في ضاحية “سالتفيكا” الشمالية؛ حيث دمرت القذائف جدران العمارات العالية وتركت دواخلها مكشوفة أشبه بمنازل اللُّعب. يقف أفراد الجيش الأوكراني في الأفنية؛ متخفين من أنظار العدو. ومن غحدى فوهات مدفع دبابة تتدلى قطعة من الكرتون كُتِب عليها: “لا تلتقط الصور ولا تكتب منشورا على الانترنت”. بينما يحاول السكان القلائل المتبقون في المنطقة نقل ممتلكاتهم القيّمة من منازلهم؛ ومنها- غسالات الملابس والثلاجات والأيقونات الدينية. 
 
خطط لمبانٍ جديدة
أصبح “كيريلو تيموشينكو” (33 سنة، نائب رئيس ديوان الرئاسة والمقرب من الرئيس الأوكراني) مسؤولا عن إعادة الاعمار؛ فما الذي يجب فعله، حينما تتهدم شوارع بأكملها وبناياتها العالية التي تضم ثلاثمئة ألف شخص؟ مخططات المباني الجديدة وُضِعت بالفعل؛ إذ يجب إسكان النازحين ومن تهدمت مساكنهم؛ كما يشرح تيموشينكو: “أغلب مباني سالتفيكا يجب هدمها، ويمكننا تشييد البدائل بحلول العام الجديد. لكننا لا نرغب ببناء شيء قد يتعرض للقصف مجددا. يمكن تحضير الأرض وحفر الأسس؛ لكن التشييد لن يمضي قدما حتى يبلغنا الجيش أن الحالة تسمح بذلك”. وهذا ينطبق أيضا على الجسور التي دمرها القصف الروسي أو التفجير الأوكراني، إذ يمضي تيموشينكو قائلا: “يمكننا توفير معابر مؤقتة خلال ثلاثة أو خمسة أو سبعة أيام؛ لكن المباني الجديدة الحقيقية قليلة جدا”. ولكن حتى الجيش لا يمكنه معرفة متى يمكن الشروع بالإعمار الحقيقي؛ كما يقول أحد الضباط المدافعين عن خاركيف وما حولها: “لم ينجلِ الخطر عن خاركيف بعد؛ إذ لو حقق الروس تقدما في الدونباس فسيستمرون بحربهم في مكانٍ آخر”.. ويبدو أن هذا الرجل لديه بصيرة متزنة وهو يتحدث بفخر عن قواته وبازدراء للروس؛ ليشرح خطتهم بتطويق خاركيف ثم التقدم الى دنيبرو باتجاه الجنوب، قائلا: “اعتقد الروس أننا سنقف كالجدار في وجههم؛ لكننا كنا أذكى من ذلك”. ورغم أنهم أقل عددا؛ نجح المدافعون بالتعويض باستخدام مجاميع متحركة وشن هجمات مربكة على أجنحة الجيش المقابل وخلف الخطوط. يقول الضابط إن القتال الأشد وطأة كان في قرية “مالاروهان” وحولها، الواقعة شرق خاركيف، وانهم أسروا نحو مئتي روسي هناك. 
يمر الطريق الى مالاروهان بحواجز للجيش الأوكراني، وقد تركت الحرب الكثير من آثارها هناك؛ حطام طائرة مروحية روسية ودباباتٍ محترقة، ومواقع مدمرة للجيش الروسي تتصاعد فوقها رائحة تفسخ. أطلق الروس صواريخهم على أطراف خاركيف من هنا؛ وما زال يمكن اكتشاف جثث الجنود الروس في القرية؛ حيث رقدوا منذ اواخر آذار المنصرم. 
ليست جميع آثار العنف الذي خلفته الحرب منظورة؛ إذ أبلغت امرأة شابة منظمة “هيومن رايتز ووتش” تعرضها للاغتصاب من قبل جندي روسي في مدرسة القرية، التي اتُخذت ملجأً للسكان. وبعد تحرير القرية تناقلت أخبار عن اساءات مزعومة قام بها مقاتلون أوكرانيون ضد الأسرى الروس. لكن الجنود الأوكرانيون النظاميون نأوا بنفسهم عن ذلك، وكذلك فعلت كتيبة المتطوعين “كراكين” التي قاتلت في مالاروهان. لكن الثابت أن كراهية الأوكرانيين للغزاة الروس بلغت حدا جعلهم لا يعبؤون بتلك الاساءات؛ وهذا ما يعبر عنه رئيس المقاطعة “فولوديمير أوسوف” قائلا: “ما حدث هناك لا يعنيني”.. كما أنه ليس من تعاطف تجاه المتعاونين مع الغزاة (فعلا أو ظنا)؛ وقامت المخابرات الأوكرانية “SBU” بعد التحرير باستجواب من حامت حولهم شبهات التعاون مع الروس واعتقلت بعضهم. 
 
{لنا خطط للحياة}
إلى الخلف من مالاروهان باتجاه الشرق من خاركيف تقع بلدة “تشوغويف” الصغيرة، وعند اعتابها يمر نهر “سيفرسكي دونيتس”، الذي أسبغ اسمه على دونباس المجاورة. والى الشرق توجد أجزاء من منطقة خاركيف، ما زالت بيد الروس، ويمر من خلالها تمويل جيشهم في الدونباس. أسس “ايفان الرهيب” بلدة تشوغويف، التي باتت موقعا متقدما في الحرب. قبيل بدء شرارة الحرب، وفي يوم 23 شباط الماضي اجتمع مجلس المدينة لمناقشة خطط تدشين المركز الرياضي الجديد ودار للأطفال والسياحة. لكن الصباح التالي شهد سقوط الصواريخ الروسية مستهدفة المطار العسكري.. كانت هناك خسائر بشرية وتدمير محلات سكنية، و59 دارا خاصة ومصنعا والمركز الرياضي والجسور على دونيتس.. نوع ما يمكن القول إن البلدة الصغيرة نجت بخسائر خفيفة؛ إذ لم تعش الاحتلال الروسي، لكن الثقة بالمستقبل تبددت تماما! 
بات مركز تكنولوجيا المعلومات الجديد في موقع مصنع سابق على شفا الإغلاق؛ فمن الذي سيأتي للعمل على خط النار؟ وأصبح مأوى لنحو تسعين شخصا يعيشون في قبو مضاد للقصف الجوي. عاش هؤلاء لنحو ثلاثة أشهر تحت جو القبو الرطب؛ نساء وأطفال وبضع قطط مربوطة الى الكراسي؛ بانتظار السلام. حلت أغطية الفرش المعلقة محل الجدران، وهناك قدور للطعام تغلي وسط الباحة. تُعلّق “أولها بوندارينكو” (73 سنة) قائلة: “لحسن الحظ ظروفنا هنا جيدة؛ فهناك ما يكفي من مواد نستخرجها من الأرض للطعام”. أما “ليديا سيسوييفا” فقد بقيت في منزلها المجاور لجسر سكة حديد، وجمعت شظايا القصف المدفعي. تضرر المنزل مرتين جراء القصف، وما زال زوجها يعاني الصمم. استمر الاثنان بالنوم في قبو البطاطا حتى الآن؛ وحينما تجرأت يوما على محاولة النوم في سريرها الاعتيادي لم تستطع، فتسللت عائدة الى القبو. بعض المتاجر مفتوحة وسط تشوغويف، والشوارع تبدو أكثر ازدحاما من خاركيف؛ لكن المظاهر خادعة. تخاطب رئيسة بلدية تشوغويف “هالينا مينيفا” (54 سنة) جيرانها الروس قائلة: “انظروا ماذا فعلت دولتكم بنا.. لقد دمرتم حياتنا؛ إذ كانت لنا خطط للحياة”. أما “تيريكوف” عمدة  مدينة خاركيف فيحلم باستضافة المدينة لمسابقة “يوروفيشن” الغنائية في العام 2023؛ قائلا: “لدينا اكبر ميادين أوروبا؛ ولو سار كل شيء على ما يرام في الجبهة؛ ستكون لنا فرصة ممتازة”.. وهذه “لو” كبيرة جدا..
دير شبيغل الألمانية