الشاعر الذي تسلق جبل النار

منصة 2022/07/03
...

 د. أحمد جارالله ياسين 
صهيل أزرق.. هو العنوان الذي حملته المجموعة الشعريَّة للشاعر محمد أحمد فارس التي صدرت عام 2022 عن دار رؤى في بغداد، والعنوان الرئيس عتبة مثيرة للمتلقي كونها تجمع بين الصوتي (صهيل) والبصري (أزرق)، وكأنها تشبه تدفق الصهيل سمعياً بتدفق زرقة مياه البحر، أو تدفق تداعيات الذاكرة وهي تنبعث من عمق التاريخ ومحطاته الإيجابيَّة برمز الأندلس (أن نعود من الأندلس بصهيل أزرق) باتجاه محطات الحاضر السلبيَّة، حيث الأسى والرماد (ونحن نزرع حلمنا الوحيد/ في جفن الأسى/ ونراهن على الرماد). ودعم العنوان بصرياً ودلالياً الغلاف الأزرق للمجموعة وصورة رأس الحصان المندمجة مع الخلفيَّة.
 
ولعلَّ كلَّ نصٍ من نصوص المجموعة التي امتازت بالقصر يمثل دفقة أخرى من الصهيل الشعري المتواصل ومن ثَمّ سمحت النصوص لذلك العنوان (صهيل أزرق) بأنْ يكون العنوان الرئيس للمجموعة كلها، فضلاً عما يمثله الصهيل من علامة صوتيَّة، تتضمن إعلاناً عن الحضور ولو سمعياً في الفضاء، ونوعاً من التحدي والاحتجاج الفحولي ولو بالشعر وبلاغته وزرقته المسالمة!.
وأغلب النصوص كانت ذات عناوين مفردة ونكرة لتظل مفتوحة على التأويل الدلالي، المرتبط غالباً بالمتن ومضمونه. فعنوان مثل (كنيسة) عند عزله عن المتن سيحيل إلى دلالة ذات طابعٍ ديني بحت، لكنْ عند قراءة المتن الذي اعتلاه ذلك العنوان، يتبين للمتلقي أنَّ الدلالة خرجت من البعد الديني لتلتبس بالبعد العاطفي كون الذات في النص تخاطب امرأة ما، خطاباً عاطفياً وبلاغياً يؤسطرها ويمنحها قدرات خارقة (حقول الياسمين من إبداع فمك)، ويختتم الخطاب بتحويلها إلى أيقونة معماريَّة ذات بعدٍ روحي (مثل أقدم كنيسة في الشرق).
ثمة رؤية رومانسية ذات صلة بما سبق ذكره، تؤسطر المرأة وتمنحها قدرات التحكم بالطبيعة أو التبعيَّة لها (لا أريد أنْ أزعج عصافيرك/ أو سواقي الماء وهي تغتسل بعطرك/ وتنام تحت أشجار جسدك) (كوني أغصاناً لعصافير اشتياقي) (الأنثى قصيدة الرب/ شجرته المباركة).
ويوظف الشاعر لغة الحياة اليوميَّة وصورها المألوفة في الشعر ليشكل صوراً جديدة ربما تصدم ذائقة المتلقي العادي الذي لم يعتد على صورٍ في الشعر من مثل (أريد الحب ساحة كرة قدم)، (هل يعقل سنموت في الماسنجر؟)، (كي تطير فرحاً/ تعلم من إبراهيم بايش/ مراوغة الحزن). (هذا المسكين ما زال معلقاً في الهواء/ ينظر عبر النافذة الالكترونيَّة).
ويمتلك الشاعر حساً نقدياً ساخراً في تناول الموضوعات السياسيَّة وتعرية خفاياها، من خلال صور ذات دلالات طريفة (إنَّ الأبقار أكثر إنتاجا من مصانع الدولة الاشتراكيَّة)، (اضحك من شعب/ يتظاهر ضد نفسه/ وحكومته تعيش ظلاً/ لحكومة دولة أخرى)، (هو يريد حقيبة الزراعة/ اقترح عليه قرد آخر/ أنْ يتسلم وزارة الرياضة/ فالوطن كله ملاعب للفاسدين).
كما يبرع الشاعر في صياغة تعابير مجازية غير مألوفة من خلال الجمع بين عددٍ من المصاحبات اللغويَّة غير المنسجمة على وجه الحقيقية، لكنها الشعريَّة والبلاغيَّة من منظور المجاز مثل (طفح الحزن/ ونبال المجرى/ رايات الوله/ منعطف الفقد/ رصاصات العناق/ مطرقة الفوضى/ شلالات الملاحقة/ بركات الغياب/ شريان السماء/ جفون الصحارى/ سفوح النساء/ اكاذيب العذاب/ حدائق النصوص/ حرائق عريك/ جمرة الذنوب/ أضرحة الألم).
ويكاد موضوعا الحب والوطن يتقاسمان المجموعة كلها مع ارتباط كل واحدٍ منهما بتفاصيل أخرى مرتبطة به، فالحديث عن الحب يتطلب الحديث عن المحبوبة وبالعكس، وكذلك الحديث عن الوطن يستدعي معه الحديث عن خرابه وفساد ساسته، وثورة محبيه، وتاريخه ورموزه.
تتنوع مرجعيات النصوص وتناصاتها في (صهيل أزرق) ما بين الدينيَّة والأدبيَّة والتاريخيَّة، وهي حصيلة ثقافة الشاعر المعرفيَّة التي تتسلل من بين السطور، لتطلّ علينا أدبياً بصوت السياب في غريب على الخليج (شهياً يبقى البكاء/ لكل غريب على الخليج)، وفي انشودة المطر (وعيناك غابتا نخيل ساعة الشهوة)، ونزار قباني في مدرسة الحب (لا أريد الحب مدرسة)، وتشكيلياً برمز بيكاسو (الريح التي رسمت آدم/ لم تكن بيكاسو)، وشعبياً بالشعر ورموزه (واقرأ له كل ليلة/ اشعار كاظم اسماعيل الكاطع). واسطورياً (في الاسطورة ميرا تحولت الى شجرة).
نصوص محمد احمد فارس تستل مفردات معجمها الشعري من الحياة اليومية العراقية بكل ما فيها من صراعات ومصادمات وموت وخراب، ولو قمنا بجرد سريع لهذا المعجم لوجدنا ان كثيرا من الفاظه تنتمي الى حقل (الموت) اليومي الذي يعيشه الانسان العراقي، في مقابل حقل (الحب) الذي يواجه بحضور مفرداته الحقل السابق للموت في صراع بين الحقلين للاستحواذ على الفضاء التعبيري المعجمي لهما معاً.