مرسم علي آل تاجرالأسطورة والدولة والأنوثة في الغرف الثلاث

استراحة 2022/07/04
...

علي وجيه
لي ولعٌ شخصيّ، بمحاولة رؤية مراسم الفنّانين الذين أحبّ اشتغالهم، الأمرُ يُشبه تماماً الاطّلاع على مسوّدة شاعر، أو مكتبة روائيّ لرؤية المصادر التي تدورُ أمام عينيه في حفر السياق السرديّ الذي يعمل عليه. رؤية مرسم الفنان ثمّ حواره بشكلٍ مستمر، لا نهاية له، لمعرفة كيفية إنتاج اللوحة، إن كانت سطحاً جمالياً، أو أثراً ثقافياً بحمولة سياسيّة أو غير ذلك هو قراءة مستمرة للناصّ 
والنص.
لعلّ علي آل تاجر (1960) قطعة غريبة في التشكيل العراقي، على سياق التحقيب التشكيليّ، فهو ينتمي للجيل الثمانينيّ، لكن دخوله كان عن طريق دراسته في معهد الفنون الجميلة، وتدرّجه حتى نيله درجة الماجستير، ثمّ عمله في (دار ثقافة الأطفال) منذ فتوّته، ورغم وجود اسم كبير في ذات المساحة التي يواجهها في حياته، والدته الفنانة التشكيلية بهيجة الحكيم (1937 - 2008) إلّا أنَّه، وبإيقاع هادئ، ظلّ في سياق منفصل، بعيداً عن كل كلام المقاهي الذي يربطُ الابن بأبيه وأمّه، أو أخيه، والذي عانى منه ما عاناه عدد كبير من الفنانين والفنانات في التشكيل العراقي.
انقطعَ آل تاجر عن الرسم لمدة طويلة، أعني الرسم كسياق إنتاج ومعارض واقتناء، لكن بعض تخطيطاته المبكرة، تلفت إلى حالةٍ ظلّ آل تاجر يمارسها: الرأي من خلال اللوحة. 
ومن خلال متابعته لعدة سنوات على فيسبوك، فإنّ آل تاجر لا يُبدي رأياً سياسياً، بمنشور، أو تعليق، أو حتى مقابلة تلفزيونية، رأيه المعروف يأتي من خلال لوحة، إن كان متعلقاً بقراءة ثقافية لموقفيْ كاتبين معروفين مثل حنا بطاطو وكنعان مكيَّة، أو تمزّق الرأي العراقي بين الملكيّة والجمهوريّة، أو أمر عابر مثل مقالات الشاعر سعدي يوسف قبل رحيله، أو طفل من الأنبار اشتهر بمفردة بذيئة على جسر بزيبز أيّام معارك التحرير.
في دارته الواقعة في عمّان، والتي يعيش فيها آل تاجر وحده، تستقبلكَ شجرة مشمش وارفة، تحتها عملٌ برونزيّ كبير للنحات أحمد البحراني في مرحلته التجريديّة، وآل تاجر مولعٌ بالزراعة، ومعرفتها بذات الوقت، وتكاد لا تخلو لوحة له من أثرٍ زراعيّ، أو ورقة، أو شجرة. 
رغم استقلاله الفنّي، وهويّته التي منحتها له استقلاليته الاقتصادية بعدم اعتماده على الرسم كمصدر عيش، إلاّ أن أول ما يستقبلك في الدار، هي أعمال بهيجة الحكيم، المبهجة، المورَّدة المُذهَّبة، لتحتل جداراً كاملاً، من الأرض إلى السقف تقريباً، الاستقلال الفني لا يعني عدم وجود الحكيم عتبةً أساسية في المنزل، وحتى في الحياة.
في غرفة الجلوس، وهي جزءٌ من الكَاليري الذي يمتدّ على البيت كله تقريباً، تحتلُ مركزها لوحة كبيرة، برموز أسطوريَّة عجيبة، تجعلُ آل تاجر من الفنانين القلة الذين تخضعُ لوحاتهم لعملية تأويل مستمرة، في أجمل ظواهر الأثر المفتوح، بعيداً عن التعمية، قريباً عن التأويل، وترى مبالغة آل تاجر فيما يخصّ الأحجام التي يعملُ عليها، بين لوحات تمتد على عدة أمتار، وبين عمل ربما لا يتجاوز 10 سم في 8 سم، وكِلا العملين له ذات المستوى من التأويل، فهدوؤه وإيقاعه البطيء يجعل كل عمل من أعماله غاية في الجدية، حتى وإن سال خيط كوميكس، أو انتقاد لاذع، من ترسبات عمله شاباً في دار ثقافة الأطفال، أو حتى شخصيته المرحة التي تُظهره صديقاً مهما كان فارق السنّ بينك وبينه. 
المرسمُ مفتوح على الحديقة، منظّم بطريقة هندسية، ومرتّب لدرجة أنّك لا تجدُ لطخة أكريليك ساقطة خطأً على الأرض، ومثل أيّ من أسلافه: يفضّل آل تاجر العمل تحت إضاءة شمس عمّان اللطيفة، مع الهواء الداخل من الحديقة إلى المرسم.
يده تحيل كل شيء إلى أسطورة، إن كان لوحة، أو لعبة قطنيَّة عملها بيده لتشبهه، أسماها "القرين". أو مشحوفاً طويلاً أزرق يجلس فيه سومريان. كان مرسماً، وكَاليري، ومواقف من كل شيء، تنطق من الجدران.