«الشاعر لا يترجل».. أربعينيَّة النواب في ثلاث مدن

ريبورتاج 2022/07/04
...

 بغداد - النجف - الحلة: 
  محمد إسماعيل
شكر رئيس دار بابل للثقافات والفنون والإعلام الدكتور الشاعر علي الشلاه، المدن التي حملت مظفر النواب، إنساناً كونياً وطنه العالم، منذ حفر تحت ثرى السجن، ليحلق فوق الثريا، وذلك في احتفاليَّة “الشاعر لا يترجل” التي نظمتها الدار بين مسرح الرشيد في بغداد وقبره في النجف ومعتقله في الحلة، خلال الأيام من الخميس 30 حزيران الفائت ولغاية السبت 2 تموز الحالي، بمشاركة أدباء وفنانين عراقيين وعرب، قرأوا قصائد ودراسات وشهادات وغنوا ألحاناً وعرضوا أفلاماً ومسرحياتٍ؛ احتفاءً بأربعينيته، التي أقرتْ تقليداً سنوياً سيقام إحياءً لذكرى وفاته.
 
 
اليوم الأول
رتَّلَ الحافظ الشيخ عامر الكاظمي آيات من سورة المطففين، تلاه الشاعر الشلاه، بالقول: “مظفر ليس شاعراً اختزلته القصيدة في الكتابة لحسناءٍ أو حدثٍ طارئٍ، إنما حامل رسالة تمادى في مواجهة الظلم، بكتابة القصيدة التي أعادت الأوطان الى أهلها”، وأكد “أسهم بلهجة جنوبيَّة شعبيَّة وأخرى لغة فصيحة، في تأليب الجماهير ضد الخنوع وتشجيعها على عدم الخوف مهما كان سوط الجلاد شديداً”.
وأضاف: “أربعينيَّة الشاعر مظفر النواب، مناسبة لنشكر المدن التي حملته، دمشق وبيروت وطرابلس والجزائر وكثيرات سواهن؛ حتى بات مواطناً كونياً العالم بيته الآمن قلقاً”.
أناب وزير الثقافة د. حسن ناظم، عنه وكيل الوزارة الشاعر د. نوفل أبو رغيف، الذي تقدم باسم الوزير واسمه معزياً: “النواب شاعر العراق والعرب، قامة عالميَّة، انطلق من المأساة وامتدَّ لينشر عزيمة المواجهة بقوة، شاعرٌ ورسامٌ وعازفٌ ومغنٍ من طرازٍ مرهفٍ”، لفت: “شكل ذاكرة عربيَّة حافلة بالإصرار، لم يكن حكراً على فئة أو نسقٍ اجتماعيٍ، إنما هو للعراق والعرب والعالم قاطبة”.
من جانبه قال أمين عام اتحاد الأدباء والكتاب الدكتور عمر السراي: “علمنا النواب كيف نجبر الآخرين على احترام كل شيء، علمنا أنَّ الحكام يجب أنْ يلاقوا حتفهم”، مقراً: “نحن مقصرون لعدم إدخال قصائده في المناهج الدراسيَّة”.
 
عمق الحسجة الشعبيَّة
عرض فيلم “الشاعر لا يترجل” في الحفل الافتتاحي، الذي أدارته النجمة إيناس طالب باقتدار شدَّ الحاضرين الى المنصَّة على خشبة مسرح الرشيد.
نوه الناقد فاضل ثامر: “تتوهج شخصيَّة مظفر النواب بإحساسٍ يغني القصيدة ويلهم ذائقة المثقفين ويلهب حماسة المناضلين؛ لهذا أحدث نقلتين في الشعر الفصيح والشعبي معاً”، وواصل: “تميز شعره الشعبي بعمق الحسجة الشعبيَّة، وهو ابن حاضرة بغداد، وتفوقت قصائده الفصيحة بسرعة إيقاع جعلها ترانيم في المخيمات الفلسطينيَّة ويحتفظ بها الناس سراً، تشرفت بمرافقته في معتقلي سجن الحلة ونقرة السلمان”.
أصغى الشاعر اللبناني زاهي وهبي الى صوت النواب وهو يعلو على صوت الرصاص: “جعل العرب يفكون شفرات اللهجة العراقيَّة، فالشاعر يبني بالدمع والورق والدم المتوارث من كربلاء الى كربلاءات القصيدة المعاصرة”، ناثراً: “مهما اشتدتْ الريح لا تفغو صهوة جواد ا
لشعر”.
الشاعر رياض النعماني بدوره أكد أنَّ “مظفر هموم بمحبة الناس لذلك كتب شعراً سياسياً.. لا غزل فيه”، وغنت الفنانة اللبنانيَّة أميمة الخليل من قصائد النواب، إضافة الى قصيدة لزاهي وهبي: “عشقته النساء واغتابه الشعراء”.
أشجى الشاعر د. وليد الصراف، المحتفين بقصيدة، وردَ في مطلعِها: “نحن في الكهف منذ عهد الانتظار، لا باب سوى باب الانتظار”.
سرد الشاعر كاظم غيلان تفاصيل حياته مع مظفر: “الآلة الإعلاميَّة تصور حياته في الخارج استجماماً، في حين هو شاعر المنفى والشعب، احتكم الى رؤاه في اتخاذ القرارات السليمة الصعبة”، وأشار الى أنَّ “مظفر النواب شاعر القول والفعل منذ قصائده الأولى، داعياً الى حمل البندقيَّة”.
ترنم الشاعر د. عماد جبار: “هلي الشالوا على الصعبات ندى القداح.. ندى الليل.. الكلام الخائف.. أشعر حتى الزغب خائفاً.. أحس يبجي.. أحس محتاج أبوس الناس”، وبين “عاش ممتلئاً بفيض الأنهار.. يا سفح روحي إنْ بكت روحي.. يا أنجمي الأولى إحرسنني.. يا أجمل الأقوال.. لا راحتاك وأنت تلمع النطفة الأولى”.
اختتم اليوم الأول افتتاح أربعينيَّة مظفر النواب “الشاعر لا يترجل” بأغنية “مرينا بيكم حمد” شعر مظفر النواب، لحن محمد جواد أموري، غناء د. جواد محسن، مع فرقته الموسيقيَّة “البنفسج”.
 
اليوم الثاني
زار ضيوف مهرجان “الشاعر لا يترجل” شارع المتنبي صباح الجمعة الفائت، منظمين جولة بقيادة الشاعر د. علي الشلاه، بين القشلة والبيت الثقافي البغدادي، جالسين في قاعة الشهيد المغيب عزيز السيد جاسم، مستمعين الى شرحٍ عن اعتقال المفكر السيد جاسم من قبل النظام السابق، بتشخيصٍ مباشرٍ من صدام، شارك في الشرح د. الشلاه وعلي عزيز.. نجل الشهيد ومدير البيت د. طالب عيسى.
وزاروا أروقة وقاعات “الثقافي البغدادي” واحدة واحدة، حيث جلس المنصف المزغني، في متحف دار السلام، متأملاً الأزياء العراقيَّة، ومروا بمكتب متحفي لميخائيل عواد وقاعة علي الوردي، وأطلوا على دجلة.
مساءً عرضت على مسرح الرشيد، أربع دقائق من مسرحيَّة “الشاعر ليس استيراداً” تأليف مظفر النواب وتمثيل مازن محمد مصطفى، شهدت المسرحيَّة رؤية جديدة، بإضافة قصائد “من قال له يبقى حياً كي يتعذب.. من يبقى حياً يتعذب.. في تلك الساعة من شهوات الليل.. الليلة يوقظني حزني.. يعذبني الشك القاتل.. فأنا القادم من أخطائي.. عند الموت يكون الشاعر وحيداً ويكون الثائر وحيداً والقائد وحيداً.. وحده.. ما جدوى ذلك أنت كما الاسفنجة تمتص الحانات ولا تسكر.. هنا الوطن الممتد من البحر الى البحر.. سجان يمسك سجاناً” أداها الفنان مازن محمد مصطفى بحزنٍ جميلٍ نال استحسان الحاضرين تصفيقاً لسحر انفعالاته المشوقة.
ارتقى منصة الحفل الذي أدارته د. ضحى سعد من كليَّة الإعلام بجامعة بغداد، الشاعر التونسي المنصف المزغني: “حين تراءى في الوضوح بديلاً لكي لا تشي بالغموض الممل لتبقى القصيدة جسراً من حجرٍ وماءٍ يوصل بين ضوء وظل.. مظفر تعلمت كيف يكون شعرك جريئاً لا يتماشى مع الخطى”.
تساءل مضر الآلوسي: “لماذا نحاول ملء احتمالاتنا بالثقوب، لتبدوا أسماؤنا نازفة؟ لماذا نعوِّد أبناءنا الموت في العاصفة.. للنواب مبصراً في زمن العمى.. قطفت عيون الأرض قبل نضوجها وأهديتها عينيك كي تبصر المدى”.
تبادل الشاعر علياء المالكي والموسيقار سامي نسيم، الموسيقى والقصائد: “لا مو حزن.. لكن حزين.. مثل ما تنكطع جوه المطر.. شتلة ياسمين” وأنشدت الشاعرة رجاء الشجيري: “جنا نموت بحذر.. هسه الموت كله ماخذ راحته وياك” وعرض فيلم “مظفر النواب يفتح الأبواب” سيناريو القاص عباس لطيف وإخراج عماد محمد، وغنت فايا يونان، من شعر زاهي وهبي، مع عزف أحمد الحيالي، على العود: “بغداد تعويذتنا.. للروح خرزة زرقاء” ثم شدت: “مرينا بيكم حمد” فأطربت القاعة.
وقرأ الشاعر رعد موسى الدخيني: “شنهي الفايدة” تلاه الزميل الشاعر يوسف المحمداوي: “السهم الذي انغرس بأحشاء العصفور.. كان غصناً يغني عليه يوماً ما.. في كل شيء حاولي أن تتقيني.. لا شك إذ الشك بعض يقيني”.
أوضح الشاعر وهاب شريف: “أنا الآن أيضاً.. كظلي.. أسجى على الأرض.. كلي يغني على طول الفرات ودجلة حلي” وأعاد الفنان د. جواد محسن، غناء “مرينا بيكم حمد” مضيفاً لها أغنية: “ميلن لا تكطرن كحل فوك الدم.. جرح إصويحي بعطابه ما يلتم.. صويحب من يموت المنجل يداعي” شعر النواب وألحان سامي كمال، أداها بإحساسٍ أثار شجوناً كامنة تفجرت في مشاعر الحاضرين.
 
الختام ثالثاً
شهد اليوم الثالث وضع إكليل وردٍ على قبر النواب في مقبرة وادي السلام.. النجف، من قبل الضيوف.. وقالت النجمة فايا يونان: “وقفت على قبر مظفر النواب، وقد انتابني شعور نبيل.. رحمه الله.. كان ممتلئاً بالحيويَّة وطاقة 
الشعر”.
توجهوا الى ضريح الإمام علي عليه السلام، مؤدين الزيارة، تلتها جلسة في معهد العلمين للدراسات العليا، تضمنت قرآناً ونشيداً وطنياً وكلمة لمدير المعهد د. زيد العكيلي: “برحيله تطوى صفحة التمرد الشعري”.. أدار الندوة عبد الهادي المظفر.
وقال رئيس اتحاد الأدباء والكتاب علي الفواز: “كيف للشاعر أنْ يصنع مثابات للإشكالات التي تركها السياسيون”، وأكد “مظفر شاعر قبل أنْ يكون مناضلاً”.
اختتم مهرجان “الشاعر لا يترجل” الذي أقامته دار بابل للثقافات والفنون والإعلام، احتفاءً بأربعينيَّة الشاعر مظفر النواب، في سجن الحلة، الذي حفره النواب ومجموعة من رفاقه، هاربين من المعتقل.
تحدث رئيس اتحاد الأدباء والكتاب.. فرع بابل صلاح السعيد: “ترك بيننا مدرسته، وقال كلمته بحق الطغاة”، تلاه الشاعر مرتضى التميمي: “حمل البلاد حقيبة في كفه.. فتكاثر الورق واهتدى الثوار”، والشاعر موفق محمد: “أولاد صويحب وأحفاده.. لا ريب يا مظفر بأنك أخذت حصتك كاملة من جحيم العراق”.
وأطرب زاهي وهبي، الحاضرين بقصيدة “بغداد” التي جاء في مطلعها: “بغداد بين النهرين كتبها الله قصيدة”، وقرأ الشاعر د. وليد الصراف: “أخوض الحرب ما أبدت لظاها”، والمنصف المزغني بقصيدة: “كلام البطة” وغنى جمال كريم، من شعر رياض النعماني وكاظم غيلان: “مرايه سوده الشمس.. والعمر خلص خسارات”.
 
شهيد الغربة
عاش مظفر النواب ومات في المنفى؛ فهل نعدُّه شهيد الغربة؟ أجاب زاهي وهبي: “المنفى أحد وجوه تجربته، شهيد المنفى”، ذكر مازن محمد مصطفى: “بالتأكيد شهيد الغربة، مناضل حقيقي غير ملوث لا يعرف إلا الحب ولم ينثني”.
أكمل الفنان كاظم القريشي: “في البدء غربته قسريَّة، لكن بعد 2003 صارت طوعيَّة؛ لأنه رتب حاله على الغربة، اعتادها وصارت مصدر إلهامه”، مرجحاً “لا أجده غريباً؛ لأنه في وجدان كل عراقي ويشعر بالعراق أكثر ممن مكثوا فيه”.
عدته الفنانة أسيل عادل: “أول وآخر شاعرٍ جسد قصيدته في موقفٍ وسلوك، له ااسمه ومكانته، معروف عربياً، ترك أثراً ذا فراغ لن يملأه أحد”.
 
إنسان كوني
مظفر النواب غادر العراق الى الدنيا كلها، بحيث صار العالم وطنه، استشهد الفنان د. جواد محسن، بالريل وحمد: “دليل على كونه شخصيَّة كونيَّة، إنها أنموذج للإنسان العالمي خارج نطاق أي مجتمع، دار العالم مناضلاً وعاد الى النجف ليدفن”.
استقرأ الفنان محمد هادي: “من خلال قصائده أنه عربي حقيقي واضح الانتماء للعراق، عقائدي ومبدئي وصاحب رسالة مهمة من أجل الإنسان بعثها الى كل العالم، معرفاً باللهجة العراقيَّة”.
 
روح الشذر
أسمع الشاعر ناظم السماوي “الصباح” من نظمه: “كالوا مات.. لا يفلان ما مات النوخذه وتاهت سفن غيلان”، والشاعر د. جبار فرحان العكيلي: “خسارة للعرب والعراقيين؛ لأنه قاسمٌ مشتركٌ لكل إبداعات الشعراء العرب ونسخة لا تتكرر”، والشاعر كامل العتابي: “روحك شذر.. وما تنجاس.. وطولك هيبة وما ينقاس.. عطرك هيل وعينك كهوة.. وضحكاتك حب 
وإحساس”.
وأعلن الفنان محمد هاشم: “مظفر قضيَّة سياسيَّة وثقافيَّة وإنسانيَّة وصدق وانتماء وطني للشعر، ظل رمزاً للمناضل المثقف المنتمي لقضيته مترفعاً عن الإغراء بالخيانة”، وأشار المنصف المزغني الى أنَّ “العرب يطالبون بحصتهم من مظفر النواب”.