هل الديمقراطية في العراق ضد نفسها.. لماذا؟

آراء 2022/07/06
...

 عبد الحليم الرهيمي
بسبب الأزمات الحادة وتعقد الوضع السياسي والاجتماعي الراهن في العراق، ووصوله إلى ما سمي بـ (الانسداد السياسي)، الذي وصفه احد القادة البارزين بالمفتعل ، توصل العديد من السياسيين والاعلاميين إلى وصف العملية السياسية، اي النظام السياسي الذي تأسس بعد العام 2003 بأنه نظام يحتضر و(ميت سريرياً)
 بهذا الوضع الحالي وتعدد توصيفاته يطرح سؤال مهم: هل أن ثمة عدوا وقوى خارجية سعت وتسعى إلى إيصال العراق لما هو عليه، ام أن هناك عوامل داخلية، يذهب كثير من الدارسين والمتابعين إلى تشخيص أبرز وأهم تلك العوامل وهي الديمقراطية المشوهة، التي أريد لها طوال عقدين أن تؤسس نظاما ديمقراطيا سليما، لكن الشريحة السياسية التي تصدرت قيادة العراق فشلت في تحقيق هذا الهدف، فبدت تلك الديمقراطية أنها ضد نفسها، وانها تقوم بحفر قبرها بيدها، وهو الامر الذي يشير إليه الكثير من الشواهد والممارسات المضادة 
للديمقراطية .
خلال دراسته وتحليله للرأسمالية والنظام الرأسمالي توصل (كارل ماركس) صاحب كتاب “راس المال” إلى أحد الاستنتاجات المهمة، التي تقول (ان الرأسمالية هي التي توجد وتخلق حفار قبرها بيدها) ولتوضيح ذلك اشار إلى أن الرأسمالي يسعى إلى تحقيق أكبر قدر من الأرباح، عبر تشغيل اكبر عدد من العمال، ليحصل على الارباح وجمع الثروة من عمل عماله وبيع انتاجهم في السوق، لكن الربح الاكبر يحققه الرأسمالي الصناعي من (فائض القيمة)، اي من الربح المضمر الذي يحققه العامل ويستولي عليه من دون وجه حق صاحب المصنع، ومع تزايد شعور العمال بالغبن وسرقة جهودهم يبدؤون بالتفكير للانقضاض عليه بالتمرد او الثورة والاستيلاء على مؤسسته الصناعية، وبهذا المعنى جاء الاستنتاج بأن الرأسمالية (حفارة قبرها). 
ولعل ثورة العمال الفرنسيين وتأسيسهم (كومونه باريس) عام 1871، هي النموذج الأوضح، الذي يشار اليه مع العديد من التمردات والثورات العمالية في عدد من البلدان الاوربية آنذاك .
وبعد نحو من 130 عاماً نشر “مرسيل غوشيه” عام 2002 كتاباً اختار له عنوان (الديمقراطية ضد نفسها) ، ولأن غوشيه من ألمع المشتغلين في الفلسفة السياسية في الساحة الثقافية الفرنسية، اهتم بهذا الكتاب عدد كبير من المثقفين الفرنسيين والعرب، ومن بينهم الكاتب والناقد السوري – اللبناني جورج طرابيشي، الذي قام بمراجعة الكتاب فور صدوره بالفرنسية.
ويلخص طرابيشي بمراجعته للكتاب الذي نشرتها الحياة اللندنية في 6/اكتوبر/2002 الاطروحة المركزية، التي ينطلق منها غوشيه هي (أن الديمقراطية الليبرالية الغربية تعيش اليوم، في مطلع القرن الحادي والعشرين هذا واحداً من اكبر انتصاراتها وواحداً من أكبر مآزقها في آن. 
وفي راس مراجعته تلك اختار طرابيش عنوان مثير هو (ايديولوجية – حقوق الانسان – اذ تصبح تهديداً للديمقراطية من داخلها)، أي أنه أراد لفت الانتباه إلى الفكرة الاساسية في أطروحة غوشيه، لكنه عاد ليقول في نهاية مراجعته (حتى لا يسيء فهم مؤلف “الديمقراطية ضد نفسها”، إن ما يرفضه غوشيه ليس أيديولوجية حقوق الانسان بحد ذاتها، بل كونها صارت هي الأيديولوجية الوحيدة لليبرالية الديمقراطية في زمن انتصارها، وهذا بالضبط ما يهددها في تقديرها، بأن تكون بلا غد! 
وهنا نسأل ونتساءل، هل ستكون الديمقراطية في العراق (ضد نفسها) أو حتى (حفارة قبرها بيدها)؟ 
إذا ما وضعنا مفاهيم وشرط الديمقراطية الليبرالية التي جرى التبشير بها بشكل واسع بعد التحرير والتغيير العام 2003، نجد أن مسارها خلال العقدين الماضيين اتسم بضرب وتجاوز تلك المبادئ، فالطبقة المتنفذة او الحاكمة قد حرفت مرات ومرات الدستور وعدم تطبيق للقوانين ازاء الفاسدين مالياً وادارياً، إذ يعترف الجميع بعجزهم عن محاربة الفساد كما اعترف العديد منهم بالفشل في ادارة الدولة، وبذلك فإن ممارسات الطبقة المتنفذة وخرقها لكل مبادئ الديمقراطية أدى ذلك لأن تكون الديمقراطية ضد نفسها، ولعل مصطلح (الانسداد السياسي) أفضل تعبير عن مأزق النظام السياسي وديمقراطيته الهشة.
اما كون (ايديولوجية حقوق الانسان) تصبح تهديدا للديمقراطية ذاتها، فيمكن أن نشهد تطبيقها السيئ والمروع دون ان تضع الحريات المعنية حداً له. أن إغلاق الطرق والجسور والاعتصامات، التي تعطل مصالح الناس والهجومات المتعددة على المؤسسات الحكومية، وغير الحكومية، خاصة الدوائر المسؤولة عن انتاج وتسويق النفط.. وغيرها وتحت اليافطة المهلهلة لحقوق الانسان وحرية التعبير عن الرأي، انما تشير بجلاء إلى أن ممارسة تلك الحقوق بالاشكال التي تبرز فهي إنما تشكل تهديداً للديمقراطية ويعزز القناعات القائلة بأن (الديمقراطية ضد نفسها). فمن ينقذها من التهديد الآتي من داخلها.