الحج.. بوابة ربانيَّة نحو السمو والصفاء

ريبورتاج 2022/07/06
...

   ذوالفقار يوسف
بمكان مقدس لا مثيل له، تختلي الروح مع خالقها، تناشده وتناجيه، ولكن هذه المرة في حضرة بيته الحرام، لا عناء هناك، فقط بحر من الأمنيات والأدعية، الضجيج مؤنس كما هي الكلمات، الحشود بتقاربها تجعلك تتيقن كيف خلقت وصيرت من الطين، نظرات تلو الأخرى تبعث فيك الخشية التي مزجت بالأحلام، هناك عند مكة المكرمة تلتقط أنفاسك مرة أخرى بعد أن تولد كصفاء الثلج وبياضه.
تبدأ رحلة الصفاء ما أن تخطو قدماك نحو هذا المسير، تراقب بلهفة كيف لك أن تصل؟، ومتى ستصل؟، هل يطول الطريق إلى المحبوب، ام أن المشقة مطلوبة لهذا المقصد العظيم، آلاف من الحناجر تصدح باسم الله، آيات وأدعية، مناجاة وابتهالات، دموع حارة، وأخرى تبتسم فرحاً وترقباً للقاء الخالق في بيته، ها هي (الصباح) تبدأ هذه الرحلة معهم، لعلها توثق هذه الرحلة العظيمة.
 
أم الأطباء
وما إن يقترب موسم الحج، تبدأ القلوب تتراقص خوفاً، فهناك العديد من المرشحين لنيل هذا الشرف العظيم، أما الخوف فكان الحرمان منه، إلا أن الحاجة فاطمة راضي كانت متيقنة تماماً بأنها في هذا العام ستكون بين يدي ربها العظيم وقرب منزله المقدس، تقول الحاجة "لقد قالت روحي كلمتها عندما اقترب موعد إطلاق أسماء المرشحين للذهاب إلى الحج، فقد ناجيت الله في مرضي أن يرزقني حج بيته الحرام قبل أن فارق هذه الحياة، ولأن أولادي يمتهنون الطب، عُرفت في مدينتنا وعند الأقارب باسم (أم الأطباء)، لذلك فهم كانوا على قدر تسميتهم بتطميني على صحتي، ويقينهم كما روحي بأدائي لمراسم الحج التي كنت انتظرها منذ صغري، وها أنا اليوم عند الطبيب الأول، الذي لا شريك له، في بيته الحرام المقدس، إذ لا شفاء إلا بإذنه، ولا صحة إلا بقدرته وقوته وعظمته".
 
تطهير
ويخفق القلب كلما سمع اقترابنا من مدينة ما او تخطيها نحو مكة المكرمة، المسبحة تناجي كما القلب  متى الوصول، وهل لقاء المعشوق وارد الحصول، هذا ما لهج به قلب الحاج منير العزاوي قبل لسانه، ليكمل حديثه "تسميات وعناوين تقربك وترهبك براحة طول الطريق إلى بيت الله الحرام، فذلك يقول إن الإحرام واجب، وآخر السعي والطواف، وآخرون ينفثون من أفواههم حسرات التمني وهم ينطقون باسم الحجر الأسود، وأخرى تتمنى أن تصلي الظهر قرب الكعبة المشرفة، وها أنا مثلهم أتخيل المشاهد التي يرونها في أمنياتهم، وأغمض عيني كلما سمعت كلمة تقربني أكثر من هذا المكان المقدس، ولأن الأمنية قريبة التحقق، ارتكزت على كرسي الراحة وأنا متأكد تماماً بأني سأصل إلى مبتغاي الأوحد في لقاء الرب".
 
إرشاد وتوجيه
ولأن العديد من الحجيج يقومون بهذه المناسك لأول مرة، يقتضي على كل مجموعة اختيار مرشد ديني، تلك الشخصية التي لا بد أن تكون عالمة وعارفة بكل ما يخص مراسم الحج، إضافة إلى ذلك إرشاد الحجيج روحياً نحو بيت الله الحرام وكيفية التعامل مع المواقف التي ستواجههم، السيد محمد الغرابي كان أحد هؤلاء المرشدين، فهو قد حج بيت الله الحرام للمرة السادسة كمرشد لهذه المجاميع، يقول لـ (الصباح) بأنها "رحلة روحانية أكثر مما تكون رحلة مكان، فالسياحة بكل أشكالها يكون هدفها التمتع والتسلية إلا الأماكن المقدسة وعلى رأسها بيت الله الحرام، فهو مكان روحي، وجهة تطهر نفسك من كل ما هو سيئ، كأنك تصفي جسدك وروحك من كل ما هو آثم وشرير، وتعلمك كيف لك أن تكون مسلماً بصورته المطلقة والحقيقية، رحلة لا شبيه لها، تجعلك تعترف بأنك تحت يدي الله، وما خلقك إلا لتكون عابداً متضرعاً تحت جدران بيته لتسمو روحك وتتقدس، وها أنا أعد من الموجهين نحو هذه المكانة العظيمة، إذ إن أغلب الحجيج أميون بموسم الحج وطقوسه وتعاليمه، خطوات وتعاليم وتوجهات صحيحة لا بد من الالتزام بها، كان لي الدور في تطبيقها وتعليمها للحجيج، وهذه المرة السابعة لي وقد وفقني الله تعالى أن أكون على قدر المسؤولية، وأن أقدم كل ما أملك من معرفة لتعليم الحجاج أصول الحج وقوانينه وتعاليمه".
 
جبل الغفران
وأنت تقف في هذا المكان المقدس، تراقب هذه الأجواء الرحمانية، يشد نظرك جبل كأنه زنبقة وقد تكتلت عليه أفواج من الناس وهم يرتدون الإحرام بلونه الأبيض، منظر تقشعر له الأبدان والأرواح، تقترب لتسمع أنين المناجين، تترصد أحاديثهم لتسمع بكاءهم، الخشوع يصل إلى حدود الغيم، والتضرع يهيج كموجات من الرياح، هكذا وصف الأمر الحاج كاظم الخماسي (66 عاماً)، عندما نظر نحو جبل عرفة، فهو يحج بيت الله الحرام لأول مرة، وكل منظر هو جديد بالنسبة إليه، اندهاشه بهذه اللحظات لا مفر منه، وخشوعه المستمر يعطي لقلبه القوة ليكمل ما بدأه في هذه الرحلة، يحدثنا الحاج الخماسي بلهفة ويقول: "إنها لحظات لا تنسى، كيف صبرت كل تلك السنين ولم أفز بهذه اللحظات من قبل، لماذا انتظرت كل تلك الأعوام ولم أصل إلى هذا المقام المقدس لأكتسب صفاء الروح وسعادتها التي كنت أبحث عنها طوال حياتي".
تدمع عين الحاج كاظم ليتوقف عن الحديث، يمسح دموعه بمحرمه، ويميل لون وجه إلى الاحمرار، يتنفس الصعداء كأنه قد نسي كل حياته قبل أن يصل إلى هذا المكان، يضج النور مجدداً على محياه، يبتسم ليكمل حديثه "ها أنا اليوم قد ولدت من جديد، كم أتمنى العيش هنا إلى الأبد، أظن أن هذه أمنية كل حاج، أن يبقى بقرب الرحمن تحت ظل بيته الحرام، كل شيء معجزة هنا، فهل يا ترى هناك معجزة أخرى تجعلني أبقى هنا لما بقي من عمري؟".
 
الجدة وحفيدها
وتقتضي عنايات البشر ببعضهم البعض أن تكون الأولوية لكبار السن منهم، فمراعاتهم في هذه الرحلة الملائكية أمر واجب التحقيق، لذلك ترى العديد من المرافقين لكبار السن يقتادون أقاربهم خوفاً عليهم من التعب والمشقة. الحاج يوسف علي (30 عاما)ً هو أحد المرافقين في رحلة الحج العظيمة لجدته الحاجة أم علي، يحدثنا بلهفة وحنين: "لحظات قدسية أتمنى أن تتكرر يوماً بعد آخر، وفرصة عظيمة أن أكون تحت يدي الرب في بيته الحرام، فكلما مسكت يد جدتي وأنا أقبع تحت ظل الرحمن، أشعر بأن الحرية هنا، حرية الروح، كأنني أطير ولا أخطو على الأرض كالبشر، ذرات من وجود الله تلامس روحي، يقشعر بدني ليس لفترة معينة وبموقف معين، كانت كل اللحظات اقشعرار، صفاء لا حدود له، ورهبة محببة إلى القلب، إذ لا عناء ولا خوف قرب بيت الرب".
 
"لبيك اللهم لبيك"
كأنهم خلية نحل تنادي بأصوات رحمانية، جملة تلو الأخرى بخشوع يعاد ويكرر، الروح هي أيضاً تتذكر كل ما مر به الإسلام والمسلمون، تتذكر الوحي المنزل على رسولهم الكريم (ص)، تتذكر ائمة الهدى وقربهم من الله ومحبتهم إليه ومحبته إليهم آل النبي الكريم، خشوع لا انقطاع له، مناجاة يسمعها القلب قبل الأذن، وطواف تراه الروح قبل العيون، كيف لا وهو أقدس الأماكن وأطهرها، إنها رحلة قد توجت كأطهر رحلات الكون وأقدسها، الملائكة هناك حتماً، نحن لا نراهم ولكنهم موجودون يمسكون بأيدينا، يبتسمون فرحاً بمراسيم تجديدنا لعهودنا أمام الخالق، ينادون كما نحن "لبيك لا شريك لك لبيك .. إن الحمد، والنعمة، لك والملك.. لا شريك لك".