منى زعرور *
تُعلمنا الحروب الكثير، أو لنقل إن الدروس المستقاة من الحرب لهي الدروس الأهم التي تخلّف الأثر العميق. ففي الحرب فرادة عجيبة، إذ تلتحم فيها الأحداث والمواقف المتناقضة. وتتشابك إزاءها المشاعر.. المؤيدة منها والمعارضة، الشامتة والمتعاطفة.. وتتداخل فيها الحقائق والأخبار الكاذبة. وتكثر في زمنها الشائعات والأساطير المستحدثة.
ومن الحرب الدائرة حالياً، أو الحرب الروسية- الأوكرانية، نستنتج الكم الهائل من المعلومات التي تحلينا إلى أكثر من دراسة، أو تُشكل على أي باحث في أي مجال من المجالات المتعددة، لتدفعه إلى تقصي كل ما يمكن له معرفته، لتطوير الرؤى البحثية إزاء مقاربة القضايا والأزمات والتحولات، إبان هذه الحرب أوالتي ستنتج عنها.
فعلى الصعيد الإعلامي مثلاً، لاحظ الباحثون الإعلاميون مدى التفاوت في التغطيات للحدث الواحد، أو كم التضليل الإعلامي، الذي أمعنت جميع الأطراف في استخدامه. أو العنصرية في تغطية أزمة اللاجئين الأوكران، أو حجم استثمار المأساة الإنسانية للجوء في الحرب الإعلامية الدائرة. لكن ما لم يتم لحظه، في تغطية أزمة اللجوء، أن اللجوء الحالي الذي أخذ الحيز الأكبر من التغطية، لم يكن الأول لهذا الشعب، ففي أواخر شباط/ فبراير عام 2014، مع الغزو الروسي لأوكرانيا في هذا التوقيت، لضم جزيرة القرم، أثارت روسيا حركة احتجاجيّة سياسيّة سرعان ما تحوّلت إللى تمرّد عنيف في شرق أوكرانيا بين فبراير/ شباط ومايو/ أيار من ذلك العام. وقد خلّفت هذه الأحداث وضم جزيرة القرم، اللجوء الأوكراني الأول حينها (في العام 2014)، والذي قدر بعدد مليوني لاجئ ونازح داخلي على الأقل.
والتي أشارت إليهم بعض وسائل الإعلام بأنهم لاجئون منسيون، بسبب استقبال الاتحاد الأوروبي لهم، ومعدل قبول طلبات اللجوء المنخفض، والأهم الإهمال الإعلامي لهم حينها، على عكس الاهتمام الحاليّ البارز.
وفي السياق التاريخي، لطالما كان الإهمال الإعلامي، أو التعتيم، أو تغييب الحدث كلياً عن التغطية ( في ما يمكننا تسميته الصفر الإعلامي)، من أهم الأساليب المستخدمة في الحروب. وحرب الخليج الثانية، خير مثال يُضرب على هذه المسألة.
ففرض الرقابة المشدّدة والمُحكمة على الإعلام في وقت الحرب، منع الإعلاميين من حضور العمليات، ليحقق السيطرة المطلقة، إلى الحد الذي دفع وكالة الصحافة الفرنسية إلى رفع دعوى قضائية ضد البنتاغون. وقد وصفت هذه الحرب على أنها أكثر حرب في التاريخ الحديث، تمت فيها إحكام مراقبة وضبط وسائل الاتصال والسيطرة عليها، بعد الدروس التي تلقاها الأميركيون من حرب فيتنام، ونسب الفشل الأميركي في الحرب الفيتنامية إلى الإعلام. وهي الحرب التي كتب عنها أيضاً، عالم الاجتماع الفرنسي جين باودريلا بمؤلفه الذي حمل عنوان "حرب الخليج لم تحدث"، معتبراً فيه أن الأحداث التي وقعت لم تكن مماثلة لما تم نقله إلى الإعلام.
هذا التعاطي الإعلامي لا يمكن فهمه إلا من خلال نظرية ترتيب الأولويات أو الأجندة، حيث تفترض هذه النظرية أن القيمين على وسائل الإعلام يختارون بعض المواد التي يتم التركيز عليها بشدة لتصبح أولوية، ويتحكمون في طبيعتها ومحتواها، على حساب طمس أو إضعاف مواد أخرى ونيلها حقها من الاهتمام والمعالجة والتغطية، وفقاً لعدة معايير تُصنف على أساسها أهمية المواد أو الحدث الحاصل وحقه في التغطية.
وبهذا المعنى فإن التعمية الإعلامية تكون بإظهار وإبراز مواد إعلامية لحدث أو أحداث بشكل، تتم فيها السيطرة من خلالها على المشهد الإعلامي العالمي أو الإقليمي أو المحليّ لإضعاف ظهور حدث أو أحداث أخرى تحصل في الوقت نفسه، أو إعدام وجودها في الظهور والتناول لتصبح صفراً من معادلة التغطية الإعلامية رغم وجودها الحقيقي في العالم.
كاتبة لبنانية*