عبدالزهرة محمد الهنداوي
أزمة السكن في العراق، ليست وليدة اليوم ولا قبل عشر سنوات، إنما هي أزمة توصف بالمتجذرة، لكونها بدأت تطفو على السطح منذ ثمانينيات القرن الماضي، عندما توقفت مشاريع الإسكان، بسب تغيير الأولويات، نتيجة دخول البلد في انفاق أزمات متلاحقة، أبعدت ملف السكن الى الخطوط الخلفيّة من اهتمامات الحكومات. واستمرت الأزمة تتفاقم عاما بعد عام، نتيجة الزيادات السكانية المضطردة، وكان من نتاج هذا التفاقم، مشهد الانشطار للأسر تبعه انشطار وتشظي في الوحدات السكنيّة، فأصبح البيت الذي مساحته 600 مترا مقسم الى اربعة او خمسة مساكن او ربما أكثر من ذلك، الأمر الذي ولّد اكتظاظا سكانيا هائلا في بطون المدن، ليس هذا وحسب، إنما بسبب حدة أزمة السكن واتساع الفجوة في هذا القطاع، فقد أدّى ذلك الى تجريف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وهذه تعد خسارة اقتصادية وتنموية فادحة، في وقت نحن بأمس الحاجة الى كل شبر منتج زراعيا، ولم تتوقف إفرازات أزمة السكن في العراق عند هذا الحد، بل نجمت عنها مشكلة أخرى تمثلت بظاهرة العشوائيات التي استشرت كثيرا لدرجة بات من الصعوبة معالجاتها، ووجود العشوائيات في بطون المدن من دون تخطيط ولا تصميم أساس، شكّل ضغطاً هائلا على الخدمات والبنى التحتيّة، فضلا عن النسيج الاجتماعي والجوانب الأمنية وسوى ذلك من التداعيات.
وبالتأكيد أن مثل هذه التداعيات، ستتفاقم أكثر مع مرور الأيام وتزايد السكان، فنحن بحاجة بما لايقل عن 200 ألف وحدة سكنية سنويا لاستيعاب هذه الزيادة، هذا اذا افترضنا ردم الفجوة المتراكمة التي تُقدّر بنحو 3 ملايين وحدة سكنية.
إنَّ كل ما تقدم من حديث يمثل توصيفا للأزمة وتحديدا لأبعاد المشكلة، وتشخيصا لما تستبطنه من أزمات متداخلة، على اعتبار أن قضية السكن تمثل اولوية أولى للإنسان، لانها تعني الاستقرار، وتعني زيادة انتاجية العامل، الامر الذي ينعكس ايجابا على المشهد التنموي بنحو عام، ومن المؤكد ان عملية التشخيص هذه ليست مهمة صعبة، لان الازمة شاخصة بنحو واضح يلاحظه الجميع، إنما الأهم هو وضع الحلول والمعالجات المناسبة للأزمة، وان كان التشخيص نصف العلاج، كما يقول أهل الطب، وفي الحلول، ان العقود الماضية شهدت توزيع أعداد كبيرة من قطع الأراضي السكنية لفئات وشرائح اجتماعية مختلفة، ولعل العراق من أكثر البلدان توزيعا للاراضي السكنية، فضلا عن إنشاء الكثير من المجمعات في بغداد والمحافظات، إلا ان المعروض مازال اقل من مساحة الطلب، وهذا يتضح من خلال ارتفاع الاسعار بنحو لافت لا سيما في العاصمة بغداد، التي فاقت أسعارها العواصم الأخرى.
إنَّ الذي يُؤشر على ملف توزيع الاراضي في الفترات الماضية، هي الصفة العشوائية في التوزيع، من دون الاهتمام بالبنى التحتية والخدمات، ومن ثم، لم تكن العملية مجدية.
نعم قد تبدو عملية المعالجة لأزمة السكن صعبة، في ظل معطيات الواقع، ولكنها ليست مستحيلة، فالامر يتطلب وجود إرادة مؤطرة بخطة، عمادها الاستثمار من قبل القطاع الخاص، على ان يدخل القطاع المصرفي بقوة في عملية تمويل مشاريع السكن، التي تمثل بيئة خصبة للاستثمار، والدخول هنا ليس من خلال منح القروض الفردية للأشخاص فهذه الآلية لم تثبت نجاحها، بل يكون العمل من خلال إنشاء مجمعات سكنية بكلف متهاودة، وهذا يستدعي الانفتاح على أطراف المدن، وإنشاء أحياء سكنية جديدة، والابتعاد عن المراكز التي لم تعد مناسبة للعيش بسبب الاختناقات المرورية والخدماتية، فضلا عن أن قيمة الارض في مركز المدينة أعلى بكثير من أطرافها، وهذا أحد أسباب ارتفاع الاسعار، في المقابل مطلوب من الجهات الحكومية القطاعية العمل على توفير المتطلبات الاساسية لانشاء تلك الاحياء وفي مقدمتها الطرق وخدمات الماء والمجاري والكهرباء والصحة والتعليم، وعند ذاك سنشهد تنمية حقيقية ومعالجة جذرية لأزمة السكن في العراق، التي طال أمدها كثيرا، وآن لها
أن تنتهي.