الحريَّة والعدالة في الدول الديموقراطيَّة

آراء 2022/07/28
...

 علي المرهج
قد لا توجد حرية كاملة في أي مجتمع من المتمعات بما فيها الحرية في الدول الديموقراطية، لأن الحرية مرتبطة بالمسؤولية تجاه الذات والآخر، وكما يُقال تقف حريتك عند حدود احترامك لحريات الآخرين.تعني الحرية ألا تكون عبدًا لنزواتك ولا عبدًا لآخر يتحكم بك، ويفرض عليك نمط الحياة والتفكير. وللحرية أشكال عدة أهمها هي: 
الحرية الشخصية، والحرية السياسية والحرية الاقتصادية وحرية الإعلام وحرية التعبير أو حرية التفكير، وكل هذه الأشكال مرتبطة بتحقق العدالة كشرط آلي من شروط تحقق الحرية بكل تمظهراتها، وقد يكون للعدالة فهم بحسب نمط الحكم السائد في الدولة، ففي الدولة الاشتراكية تكون العدالة رهينة المساواة الاقتصادية، وأن تكون الدولة هي المسؤولة عن المؤسسات الاقتصادية وتوزيع الثروة، بينما في الدول الديموقراطية ترتبط العدالة بمفهوم الليبرالية في الحياة الفردية والاقتصادية، وهذا الأمر يستلزم قبول شرط التمايز في الثروة والحياة الاقتصادية والاجتماعية التي تأسست على قاعدة “الحرية الفردية” والحرية الاقتصادية” على قاعدة الاقتصاد الحر والتنافس الدائم، “دعه يعمل.. دعه يمر”، وبالتالي يكون شرط الذكاء هو مقياس للتمييز بين الأفراد.
تتعارض شروط وجود الدولة الديموقراطية مع وجود فكر ثيوقراطي يحتكم مواطنوه إلى قوانين مستمدة من الشرائع اللاهوتية، وهذا الأمر لا يعني تغييبها أو تجاهله، ولكنها منظومة ممكن الافادة منها في اجتراح بعض القوانين، والإنسان حر في جعلها متحكمة بحياته الفردية، لأنه يعتقد بها، ولكنه ليس حرًا في تعميم معتقده الثيولوجي على الآخرين وارغامهم على القبول به، بوصفه النمط الأكثر تطابقًا مع الفهم الميتافيزيقي للعدالة.
 لا نستغرب إن علمنا أن الإنسان في الدول الديموقراطية خاضع لمنظومة العدالة والالتزام بقوانينها، بل ربما تكون هذه القوانين عوامل ضغط تحد من حرياته، التي قد يتبادر له أن حر حرية كاملة، ولذلك نجد مفكرا مثل الطهطاوي معجبا بمنظومة العدالة في فرنسا، وكذلك محمد عبده الذي نسب له القول حينما ذهب إلى فرنسا “وجدت إسلامًا، ولم أجد مسلمين”، بمعنى أنه وجد ما يتطابق وغاية الإسلام وهدفه، ألا وهي العدالة التي تؤسس للحرية، والعبارة بمضمرها تحمل القول التالي (عندنا يوجد مسلمون، ولا يوجد إسلام)، لغياب تأثير منظومة العدالة في الحياة السياسية والحياة الاجتماعية.
تكون فاعلية الحرية كلما ارتبطت بالدفاع عن حقوق الإنسان، بعيدًا عن جنسه أو لونه أو دينه أو قوميته، لذلك نجد الدول الديموقراطية تدعم مؤسسات المجتمع المدني، التي تدافع عن حقوق السود والمرأة والطفل وحقوق الأقليات، حتى صار مفهوم الديموقراطية مرتبطا بحكم الأغلبية مع احترام حقوق الأقلية، فظهر لنا مفهوم “التعددية الثقافية”، الذي دافع عنه فلاسفة أمثال: “تايلور” و”كميلكا”، للدفاع عن “التنوع الثقافي” ورفض فكرة “صهر الثقافات” التي عملت عليه الدول الدينية والقومية، لأن هكذا فهم ينطوي على اقصاء للحرية الفردية وحرية الجماعة المختلفة، التي تعيش في مجتمع متعدد الثقافات، أو ما يُسميه “كميليكا” “ الحقوق المتمايزة
 الجماعية”.
الديموقرطية تجدد نفسها بنفسها، لأن الفكر الحر يتحرك من جميع الجهات إلى جميع الجهات، لذلك نجد فلاسفة ومفكرين يظهرون من داخل هذه المنظومة لنقدها وتجديدها بما يتوافق مع راهنية التحديات، لذلك نجد فيلسوفًا مثل “رولز” يطرح في كتابه “العدالة كإنصاف” تصورًا جديدًا للعدالة، يعارض فيه تصور فلاسفة المنفعة الذين ربطوا العدالة بالرفاهية الفردية، ليطرف مفهوم “الرفاه العام”، الذي يأخذ بالحسبان عدم قدرة الفكر الديموقراطي التقليدي على ربط العدالة بالمساواة، لذلك وجدناه يهتم في ما أسماه “العدالة التوزيعية”، عبر إعادة تأويل مفهوم “الواجب الكانتي” وربطه بالقانون الأخلاقي، والعمل على ايجاد وسيلة لتحويل بعض أرباح الجماعة الأكثر كسبًا للثروة إلى الجماعة الأقل نفعًا، وكأنه يحاول أن يستفيد من بعض رؤى دعاة الفكر الاشتراكي عبر جعل الدولة مسؤولة مسؤولية مباشرة في تهيئة الفرصة للفرد وايجاد عمل يُنصفه، أو عبر ايجاد آلية ناجعة لتطبيق مبدأ “الضمان 
الاجتماعي”.
كل ما ذكرناه، إنما هو يجعل ارتباط العدالة بالحرية في الدول الديموقراطية أمر لازم وثابت.