الباب

ثقافة 2019/04/03
...

محمد صابر عبيد
إنَّ أبرز سؤالٍ يمكنُ أن يُطرحَ حين تتبادر إلى الذهن كلمة (باب) هو متى نشأتْ فكرة الحاجة إلى الباب ولماذا؟، وأوّل ما يخطر في البال أنّنا نسمع أنّ للسماء أبواباً يفتحها الله في أوقات منتخبةٍ كي يصله دعاء المحتاجين، لكنّ الأرض على سعتِها بلا أبواب والطبيعة على تنوّعها بلا أبواب وأشياء كثيرة أخرى لا أبواب لها لأنّ الأبواب حجاباتٌ تمنع عرض ما في الداخل على الخارج، أو العكس، ومن دونها يكون كلّ شيء متاحاً تماماً، إذ كان الإنسان البدائيّ لا يحتاج إلى باب فكلّ الطبيعة له وهو لها، لا حيازة شخصيّة تستدعي بناء الباب لمنعها عن الآخر فكلّ شيء مثل الماء والهواء بلا حرّاس ولا حُجّاب، والبابُ هو الحارسُ الأوّل في تاريخ البشريّة يحمي الإنسان بعد تشكّلِ وعيه وشعوره بالخوف من الآخر والغير فضلاً عن نشوء الخصوصيّة التي تستدعي حجب الذات عن الخارج في أوقات معيّنة ومناسبات معيّنة.
ربّما يكون السؤال: (متى فكّر الإنسان بأهميّة الباب؟) مقترناً بالدراسات الحضاريّة التي تناقش فكرة انتقال الإنسان من البداوة إلى الحضارة، وقد يرتبط هذا الأمر بتاريخ مُحدّد يعود إلى حضارة قديمة محدّدة موغلة في الزمن، وقد يصعب وضعُ تاريخٍ ممكنٍ لهذا التحوّل الكبير في حياة البشريّة، فالباب فكرة حضريّة مدنيّة تتعلّق بحقوق الإنسان في تكوين استقلاليّة خاصّة يأخذ فيها حريّته في التعامل مع أشيائه التي لا يرغب أن يطّلع عليها غيره، وللباب في الحضارات القديمة حكاية تحتاج إلى دراسة واستقراء وبحث وحفر في العقل الثقافيّ الإنسانيّ حيث تعلّم الأشياء بثمن التجربة، ولهذا الباب في الحضارات القديمة على المستوى الأنثروبولوجيّ علاقة بالباب في الحكايات والأساطير والملاحم التي كانت مهد الثقافة والمعرفة فيها.
تعدّ أبواب المدن القديمة من موجبات تأسيسها وتشييد معمارها لما لهذه الفكرة من انفتاح حضاريّ وتجاريّ على جهات الأرض التي تمرّ من هذه المدن، وهي الجزء الأهم من شخصيّاتها إذ تمثّل هُويّتها وخصوصيّتها التي تدوم معها مهما طال الزمن، وغالباً ما تكون سبعة أبواب لرمزيّة الرقم (سبعة) وقدسيّته لدى الكثير من الشعوب ومنها الشعوب العربيّة الإسلاميّة. ولعلّ الأبواب السبعة للمدن القديمة مثل دمشق وحلب والموصل وتونس وغيرها تتصدّر تاريخ الأبواب وتدلّ على قيمتها التراثيّة والحضاريّة، وتسهم في توكيد الحساسيّة المكانيّة السيميائيّة التي تحيط الأبوابَ بالأسرار وتزيّنُ جوهرَ المدينة بالإغراء وتسوّر معناها وتحمي آلامَها وآمالَها.
الباب مثلّثٌ مختلفُ الأضلاع رمزياً ودلالياً، فثمة الباب المفتوح وهو يحتفظ بشكل الباب وهيأته وشخصيته وحضوره من دون وظيفته التقليديّة المعروفة بالحجب والعزل، إذ يتضمّن دعوة مضمرة للاستدعاء والعبور بلا استئذان أو وصاية، وثمّة الباب المغلق الذي يتصدّى لوظيفته كاملة ويحقق أقصى درجات المنع والحجب والفصل بين الداخل والخارج لأسباب مختلفة كثيرة لا مجال لحصرها، لكنّه في الوقت نفسه يشعل رغبة التعرّف وشهوة الفضول من أجل معرفة ما هو محجوب خلف فضاء الغلق والعزل، وثمّة الباب الموارَب وهو منزلة بين منزلتين لا هو مفتوح كي يُنظرَ إليه بحريّة ولا هو مغلق يتحدّى رغبة القراءة والتحليل والتأويل، بل هو نصف مفتوح ونصف مغلق يؤلّف حيرة موغلة في الغموض والتعتيم والإبهام غير أنّه يوقد في حساسيّة التعرف والكشف رغبة جامحة لاقتحامه ومغامرة ولوجه.
من الأسئلة التي يمكن أن تعلن عن نفسها ثقافياً بشأن فلسفة الباب هل أنّ الباب زينة أم حاجة؟، هو حاجة في أصل تشييده وبنائه بالتأكيد لكنّه لا يعدم أن يكون زينة حين يتفنّنُ بعض الناس الموسرين في تزيين دورهم وقصورهم بأبواب فخمة كبيرة ومرصّعة بتشكيلات جماليّة مختلفة، هكذا يتحوّل الباب من موضوع حاجةٍ إلى موضوع تجميلٍ وتزيينٍ تقتضيه تحولات ثقافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة تتحكّمُ بالناس أو يتحكّمون بها، فالتفنن في صناعة الأبواب ممارسة تشكيليّة زخرفيّة تُشبعُ حاجة جماليّة فوق الحاجة النفسيّة الضروريّة، وإذا ما عدنا إلى قراءة فنون الأبواب في المساجد والكنائس والقصور والمدارس والمتاحف القديمة والحديثة سنجد أنّ فنّاً زخرفياً عظيماً قد حصل فيها، يمكن أن يكشف عن تاريخ ثقافيّ حضاريّ لكلّ عصرٍ نشأت فيه وتطوّرت على وفق حساسيّات العصور وأمزجتها وثقافاتها، وهذه الزينة قد أسهبت أحياناً في غيّها والتباسها وتحوّلت إلى ما يصطلح عليه: الباب الزائف (بالإنجليزية: False door)، وهو الذي يحمل اسم صاحبه مزوّداً بتعاويذ لحمايته وسلامته وما تقدم به من قرابين.
العنوان باب النصّ، وحيث كانت القصيدة العربيّة القديمة بلا عنوان فهي بلا باب، وقد تنطوي هذه الخاصيّة على أنّ القصيدة متاحة للجميع فلا تحتاج إلى باب يضع لها عتبة للدخول إلى فضائها الداخليّ، فقد كانت قصيدة شفاهيّة على الأغلب وفم الشاعر مفتوح على أفق القول الشعريّ بلا حواجز تمنع الأصوات من الانفلات، وإذا كان العنوان باب النصّ فإنّ الرغبة باب القراءة، ينفتح أكثر كلّما تضاعفت الرغبة في اقتحام أبواب النصوص وفتح مغاليقها.
الباب الحقيقيّ هو الباب الذي يمكن للعين الباصرة أن ترصده وتحذّر العقل من اجتيازه بلا استئذان، والباب الرمزيّ هو الباب الذي لا يمكن رصده إلا بوساطة الرؤيا القادرة على فكّ شفرة الرمز المختبئ في خشب الباب ولونه ومعناه، وما بين الباب الواقعيّ والباب الرمزيّ مسافة قابلة للقراءة والاحتمال والافتراض تبقى مرهونة بما يفرزه باب الواقع وباب الرمز من دلالات وقيم آنيّة ومؤجّلة.
ثمّة بابٌ مفتوحٌ وبابٌ مغلقٌ وبابٌ مُواربٌ، وكلّ حالة بابيّة لها معنى ودلالة وقيمة وموقف وحكاية ورؤية، الباب المفتوح يتضمّن في دلالة تقليديّة أولى دعوة قائمة للولوج والدخول الحرّ يشبه علامة المرور الخضراء، والباب المغلق حماية لمن في داخلة وطرد لمن في الخارج وعلامة على إيقاف الحركة حوله بما يشبه علامة المرور الحمراء، أمّا الباب الموارب فيظلّ غامضاً ومغوياً ومورِّطاً يعكس دلالات الحذر والريبة والانتظار، ويتحمّل على نحوٍ ما معنى المغامرة والمجازفة على صعيد الإغواء والإغراء والتحريض بما يشبه العلامة الصفراء، هو الباب نفسه لكنّ طريقة عرضه تغيّر معناه وتحرف دلالته باتجاه يتلاءم مع ما تختزنه كلّ وضعيّة من بُعْدٍ علاميّ مناسب.
علاقة الباب بالجسد وتشكيلاته علاقة وثيقة، فللجسد بوصفه نموذجاً مُصغّراً للطبيعة أبواب كثيرة مفتوحة على الخارج، وأخرى مغلقة، وثالثة مُوارَبة، وأبواب الجسد المختلفة لها وظائف مختلفة أيضاً، القلب باب الحبّ والعين باب الرغبة، والأذن باب التجسّس، واليدُ باب المسرّات، والقدمُ باب السفر، والظنّ باب الإثمِ أو باب اليقين. وباب الهوى أوسع الأبواب.