كيف أحكم الدولار الأميركي قبضته على المال في العالم؟

منصة 2022/12/28
...

 ترجمة: أنيس الصفار

 مارك رزيبكزينسكي 


الدولار هو العملة الأساسية في جميع أنحاء العالم. نظراً لذلك فإن قيمة الدولار هي العامل المحرك للاستثمارات الدولية، وتحركات العملة هي محدد أساس في تنويع الدخل الثابت عالمياً كما أن لها اهميتها في أي قرار دولي له علاقة بالقيمة المالية. رغم هذا يعتمد التحوط كنهج جاهز متعارف عليه بين المشتغلين بإدارة المال، والسبب هو محدودية قدرة هؤلاء على التنبؤ بتحركات العملة. نظراً لصعوبة التنبؤ والاستقراء فإن ما يبذل من الوقت في محاولة تحليل العناصر المكونة الأساسية لعائدات العملة يكون قليلا نسبياً، ولهذا السبب تستبعد ديناميكيات الدولار في أغلب الأحيان ويتم التعامل معها كلغز غامض صعب الاستقراء.|




سلوك الدولار لا يتبع البيانات الأساسية، وصعوبة التنبؤ به تزداد تفاقماً بسبب المنعرجات والمنعطفات المصاحبة لكون الدولار عملة الاحتياطي المركزي لنظام النقد العالمي.الصراعات حول النظام النقدي العالمي، أو غياب تلك الصراعات، أدت إلى ما يبدو وكأنه تنبؤات لا نهاية لها حول موت الدولار، وهو ما لم يتحقق حتى الآن. من الممكن أن يكون الدولار سائراً نحو الانحدار على المدى البعيد ولكن على طول الطريق كانت هناك سنوات من السلوك المتسم بتحدد النطاق (أي عدم خروج أسعار السوق بوجه عام عن مدى معين) أو بقفزات عالية في الاتجاه المعاكس.

كان “إسوار براساد”، الاقتصادي المرموق السابق في صندوق النقد الدولي والاستاذ في جامعة كورنيل والزميل في معهد بروكنغز، عاكفاً لسنوات عديدة على البحث في شؤون النقد والعملات. وقد تراوحت بصيرته النافذة الفريدة في شؤون الدولار ما بين البحث النظري الجاري وتفسير سياسات التمويل الدولي المعقدة. يتضح من وصف براساد للدولار أنَّ السياسة هي التي تحرك العملات وتوجهها إلى مديات أكثر بكثير مما يفعله الاقتصاد. فالاقتصاد يفرض خيارات وسلوكيات معينة على اللاعبين الدوليين الأساسيين، في حين تبقى الدول تقاوم التوجه الطبيعي للعملات وفي كثير من الأحيان تلقي بثقلها ضد الميول المتأصلة لأسعار المال النسبية.

يسلط براساد التركيز على الدور الخاص الذي لعبه الدولار طيلة نصف قرن مضى ويخلص من ذلك إلى أن هذا المسار لن يتغير قريباً. فلعبة المال الدولية قد أوجدت بيئة أتاحت للدولار أن يبقى مهيمناً عليها كعملة احتياطي، حيث لا يوجد من بدلاء يدانونه ولا منافسين، ومن المرجح أن يستمر هذا “الامتياز الباذخ” الذي يتمتع به الدولار رغم كل التقارير المتتابعة التي تتحدث عن موته. فنظراً لأهمية استمرار تدفق رأس المال، وإدارة النقد، وارتفاع طلب البنوك المركزية الأجنبية على الأصول الآمنة، سوف يبقى الدولار قوة مهيمنة على حركة المال الدولية حتى في حالة انحسار القوة الاقتصادية للولايات المتحدة.

هيمنة الدولار ليست مسألة تجارية، فتدفق السلع والخدمات غدا أكثر تشتتاً مع مرور الزمن، في حين يستمد الدولار هيمنته من تدفق رؤوس الأموال وتزايد الطلب على أصول آمنة في العالم. فأسواق رأس المال العالمية الأكثر اندماجاً وتكاملاً قد تسببت بتقلبات أكثر في تدفق لرأس المال، إلى جانب “التوقفات المفاجئة” في التمويل الأجنبي قصير الأجل. هذه البيئة دفعت دول السوق الناشئة إلى الاحتفاظ باحتياطيات أكبر من الدولار كمصد بوجه الأزمات المالية. بالإضافة إلى ذلك كانت البنوك المركزية لهذه الأسواق الناشئة دائبة بنشاط على التدخل في أسواق العملات لحماية صادراتها واتباع سياسات تجارية حديثة.

في واقع الأمر أنَّ أسعار الصرف العائمة بحرية ليست أكثر من خرافة إلى حد بعيد في أسواق العملات، لأن البنوك المركزية ضالعة فيما يمكن تسميته “التعويمات القذرة” التي تهدف إلى السيطرة على تحركات العملة أو اضعافها، وشراء الدولار وبيعه عامل جوهري في هذه العملية. أكثر من ذلك أنَّ الدور الحساس الذي تلعبه السياسة في هذه العملية يخلق بيئة يستخدم فيها ترديد خطاب “حروب العملة” لوصف الصراعات السياسية المتصورة إذ تتنافس الدول لاحتلال مواقعها في ميادين التجارة وتموضع رأس المال. الحيازة الأجنبية المرتفعة لعملة الدولار تمهد الطريق أمام لعبة سياسية لجميع البنوك المركزية فيها حافز وسبب يدعوانها للمحافظة على قيمة الدولار حتى في ظروف الأزمات.

يركز كتاب “فخ الدولار” على شرح سلوك الدولار المبهم والمنافي للمنطق الذي لوحظ خلال الأزمة المالية الأخيرة. فبرغم الاضطرابات المالية التي اجتاحت الولايات المتحدة شهد الدولار تدفقات داخلة ضخمة خلال الربع الأخير من العام 2008. وقد اسفرت أزمة الدين الأوروبي عن النتيجة ذاتها أيضاً: تدفقات دولار داخلة. من المثير للدهشة أن واقعتي خفض تصنيف الولايات المتحدة إلى (AAA) وانتخابات العام 2012، اللتين وقعتا وسط أجواء اختناق سياسي بالغ الشدة، ارتدتا بتأثير إيجابي في الدولار. يوحي هذا بأنَّ الدولار يجب ألا يعتبر عملة ملاذ آمن، لكن التدفقات فاجأتنا رغم هذا بحكاية غريبة تتحدث عن ارتفاع الطلب على الدولار. تفيد الحكمة الاقتصادية التقليدية أنَّ حيازة الدولار كان يفترض أن تكون تجارة فاشلة في تلك الفترة، فكيف اذن استطاع الدولار أن يحتفظ بدوره كخازن 

قيمة؟

ترتكز قضية هيمنة الدولار على ثلاث مفارقات تتعلق بحركة المال العالمية (كل مفارقة منها تبدو متناقضة مع نفسها ظاهرياً رغم كونها صحيحة في الواقع - المترجم). المفارقة الأولى هي أنَّ أكبر المستوردين لرأس المال ليست الأسواق الناشئة بل على العكس هي الأسواق المتقدمة، فهنالك اختلال توازن كبير في المدخرات يهيمن على تدفقات رأس المال في العالم. المفارقة الثانية تتمثل في أنَّ الأسواق الناشئة تبقى تتطلع إلى الدولار كضمان آمن، رغم كل المشاكل التي تقع فيها الولايات المتحدة، من أجل الاحتماء من تدفقات رأس المال المحلية سريعة التقلب. المفارقة الثالثة هي أنَّ احتياطيات الدولار الهائلة التي تحتفظ بها البنوك المركزية الأجنبية تجعل من شبه المحال على الدولار أن ينخفض دون الحاق خسائر كبيرة بالميزانيات العامة لهذه البنوك. الحاجة الأجنبية الصارخة للحفاظ على قوة الدولار تجعل من مصلحة العالم المؤكدة الحفاظ على استقراره، وأوضح مثال على ذلك التركيز الأخير على التراجع المتدرج في الاحتياطي الفيدرالي وتداعيات ذلك على الأسواق الناشئة.

رغبة هذه الأسواق الناشئة بدولار يتمتع بالاستقرار أثارت المخاوف أيضاً من نشوب حرب عملات بين الدول، وسياسة البنك الفيدرالي، المتمثلة بإغراق أسواق المال العالمية بالدولار، لابد أن تسفر عن انخفاض قيمته مقابل ارتفاع قيم عملات الأسواق الناشئة. هذه البلدان تعتمد في الغالب سياسات نمو عمادها التصدير، وبالتالي لا يناسبها أن ترتفع أثمان صادراتها من السلع في أسواق المنافسة العالمية. لذا كانت النتيجة هي إقبال البنوك المركزية الأجنبية على شراء المزيد والمزيد من الدولار لوقف هجمة المعروض منه، وهذا معناه أنَّ تلك الدول المعتمدة على التصدير ستبقى في حالة حرب ضد تهاوي سعر الدولار، لكنها من خلال هذه العملية إنما تساعد في الابقاء على هيمنة الدولار. ينبغي الاشارة هنا إلى أنّ هيمنة الدولار لا تعني هيمنة الولايات المتحدة على حركة المال، فالولايات المتحدة لن تتمكن من فرض إرادتها السياسية على الآخرين.

إذ تسعى الدول لإتباع سياسات المصلحة الذاتية في إدارة عملاتها وضوابط رأس المال يكون من الممكن اعتبار البيئة المالية العالمية على شفا الفوضى بدون وجود قواعد أو آليات لوقف سلوك مآله الحاق الضرر بالمجموع. يطرح مؤلف الكتاب حجة قوية في تفسير الفشل المؤسساتي والحاجة إلى وجود آلية تنسيق تؤدي إلى فرض الاستقرار. من سوء الحظ إنَّ تاريخ الحوكمة المالية في العالم كان دائماً قصة فشل، فالمنظمات مثل صندوق النقد الدولي التي عمل فيها المؤلف لسنوات عديدة لم تكن فعالة في تشكيل وتنفيذ مهمة فعالة أو خلق هيكلية للتنسيق على مستوى عالمي. اجتماع دول مجموعة العشرين انتهى به المطاف إلى مجرد نقاشات لم تفضِ إلى هدف جدي. في عالم يخلو من لاعبين كبار مهيمنين قادرين على فرض القواعد، وحيث لا توجد تحالفات قادرة على تطوير نظام جديد، سوف يواصل الدولار دوره القائم كعملة احتياطي ولكنه لن يستطيع فعل شيء للمساعدة على قيام بيئة مالية عالمية أفضل. هذا إقرار محزن بواقع الحال، إقرار يفسر استمرار هيمنة الدولار بسبب الافتقار إلى نظام.

وسط هذا المستنقع البنيوي يكون من المستبعد أن تنجح عملة أخرى في الحلول محل الدولار، أما العملة الصينية المسماة رينمنبي فهي ليست جاهزة بعد لتولي هذه المهمة (الرينمنبي هي العملة الرسمية لجمهورية الصين الشعبية وهي واحدة من أكثر العملات تبادلاً في العالم – المترجم) لأن مجرد كونها عملة لاقتصاد كبير لا يكفي لجعلها تتولى دور رصيد الملاذ الآمن لتصبح مخزن القيمة بالنسبة للعالم. يجري الحديث أيضاً عن اتخاذ اليورو بديلاً احتياطياً، ولكن أزمة الديون السيادية التي وقع فيها الاتحاد الأوروبي كشفت للمجتمع العالمي أنَّ اليورو يجب أن يتغلب على مزيد من المصاعب المؤسساتية المتصاعدة قبل أن تتقبل البنوك المركزية الأجنبية اي تعرض إضافي له.

يختتم كتاب “فخ الدولار” بسيناريو يصور إمكانية اصطدام الدولار بنقطة انقلاب ينزلق بعدها إلى الأزمة. من الممكن أن تكون الجغرافيا السياسية هي العامل المحفز لانزلاق الدولار ولكن المؤلف يعتقد أنَّ النظام المالي الحالي الهش يتمتع باستقرار معين من المستبعد له أن يتغير. كثيرون سوف يختلفون مع هذا الوصف للاستقرار نظراً لشدة تطلع بعض لاعبي العملة إلى نظام جديد من منطلق المصالح الخاصة، لكن بناء على المراجعة الدقيقة المتفحصة لما تفرضه الضرورة للحصول على عملة احتياطي جديدة قادرة على كسب القبول في مختلف أنحاء العالم نجد أنَّ من الصعب على أي نظام مالي جديد تحقيق ذلك.

هذا الكتاب يوفر إطاراً فعالاً لبيان الأسباب التي تجعل احتفاظ الدولار بقبضته على حركة المال في العالم مرجحاً. تبرز لدينا نقاط تشديد صغيرة في هذا التقديم كان سيبقى أكثر حيادية وانصافاً بدونها، فقد كان من المفيد لو أنَّ مناقشة أكثر توسعاً لمسألة عدم توازن المدخرات قد اجريت، وكذلك لو كانت هناك مناقشة أخرى أوسع بخصوص تأثير التمويل العالمي والاستثمارات المباشرة والعمليات المصرفية. على سبيل المثال كان هناك تنسيق أعلى في الضوابط منذ الأزمة المالية العالمية وهذا ستنعكس آثاره على تدفق رأس المال. لا يوجد حالياً نظام مالي عالمي جديد بل هناك بدلاً منه أنظمة وإجراءات فردية ترقيعية ادت إلى انحراف النظام القديم الذي كان قائماً قبل الأزمة. 

بعد أن راقب عن كثب وشارك في بعض المناظرات الرئيسية المرتبطة بصندوق النقد الدولي ودبلوماسية الدولار العالمية مال المؤلف إلى اضفاء طابع شخصي على عرضه من خلال وجهات نظر داخلية وجانبية. أسلوب براساد، الأقرب الى السرد القصصي، يستشهد بمقولات للاعبين كبار في ما يتعلق بالأحداث الرئيسة في تكشف فخ الدولار خلال السنوات القليلة الماضية، الأمر الذي جعل من الكتاب قراءة سهلة وميسرة. بيد أنَّ قراءة العرض المقدم بدت أحياناً أقرب إلى المقالة الخبرية المطولة منها إلى التاريخ الحالي لهيمنة الدولار، وهذه مشكلة كلاسيكية عندما لا تتوفر للكاتب ميزة الاحساس بمرور الوقت. بيد أنَّ براساد ينجح رغم ذلك في تحليل واحدة من أهم القضايا في الاستثمار العالمي بمستوى من التفصيل والصراحة المفيدة لأي قارئ يرغب في اكتساب أساس قوي في لعبة العملات العالمية. قراءة هذا العمل قد لا تغير رغبة المستثمر في التحوط إزاء انكشاف العملة ولكنها ستعطيه فهماً أوضح للأسباب التي جعلت السياسة، وليس المبادئ الأساسية، هي القوة المحركة الرئيسة لديناميكيات 

الدولار.


عن موقع {إنتربرايزنغ إنفيستر}