النساء المسلمات وجمود العقل الأصولي المتشدد

آراء 2023/01/02
...

ابراهيم العبادي

منذ جهود قاسم امين المصري (1863 - 1908) وحتى ارتفاع شعار (المرأة، الحياة، الحرية) في شوارع ايران، مرَّ قرابة المئة وثلاثين عاما على ظهور ما يسمى بقضية المرأة في العالم الاسلامي حيث ارتبط الجدل عن التخلف الحضاري بقضايا المرأة من حقوق و حريات ودور اجتماعي وموقف الشريعة والقانون منها.



سعى مفكرون ومثقفون وحتى فقهاء إلى الدفاع عن حقوق النساء ومشاركتهن في الحياة العامة والحياة السياسية خصوصا، وخيضت جدالات ومعارك فكرية ونقاشات فقهية بشأن حق المرأة في الولاية العامة والرئاسة والقضاء وتمثيل الجمهور في المجالس التشريعية (البرلمانات)، الى جانب معارك الحجاب والسفور والميراث وما يتعلق بهما من احكام شرعية، وظلت هذه القضايا موضع اخذ ورد وجدل ساخن على طرفي نقيض، بين فكر معتدل وآخر متشدد ومتزمت، تجمد عند رؤى سلفية جعلت من موضوعة حرمة الاختلاط بين الجنسين (حتى في المسجد الحرام) قضية القضايا، التي يتفرع منها الاختلاط في الادارات والمدارس والجامعات والمجالس، مشكلة لا يمكن حلها الا بالفصل بين الرجال والنساء بشكل مطلق، او بعزل النساء وتحديد ادوارهن الاجتماعية والتضييق عليهن في التمتع بجملة من الحقوق، أبرزها، التعليم والعمل والمشاركة السياسية.

يقتضي الانصاف الاشارة إلى أن التيارات الاسلامية لم تكن متوحدة في رؤيتها لقضايا المرأة، ففيما تشددت الاتجاهات السلفية كما اسلفنا فان الاتجاهات الاصلاحية ذات العقل الاجتهادي خصوصا الشيعي منه مثلت جانبا مستنيرا، وكانت تراجع افكارها ومواقفها واجتهاداتها بشكل متواصل مستفيدة من المتغيرات الاجتماعية والسياسية والقراءات المتجددة للنصوص، بل إن الاسلام الحركي المعاصر اعتمد في جهوده الحركية على المرأة وأفرد لها مساحات من اهتماماته الفكرية والسياسية، ووجدنا من الفقهاء المتأخرين من الغى مواقفه السابقة من مشاركة المرأة في الحياة السياسية إلى حد اسقاط الاعتراضات المشهورة على تصدي المرأة للولاية السياسية (الخميني، الصدر الاول، شمس الدين، فضل الله)، كأن تصبح رئيسة للدولة ونائبا في البرلمان، بل منهم من أوجب عليها المشاركة في الانتخابات (السيد الخميني) بينما لم تمانع المجامع الاسلامية المشهورة كالأزهر والزيتونة ومجامع الفقه الاسلامي الأخرى من تمتع المرأة بحقوق المشاركة السياسية وحق التعليم والسفر وقيادة الادارات والوزارات والسفارات وغيرذلك، عموما تفاوتت مساحة الحقوق بحسب الوعي الاجتماعي والسياسي السائد في البلدان الاسلامية بين تفريط بالحقوق كما هو الموقف التركي السابق من حق المرأة في الحجاب بعد ان منع ذلك القانون لعشرات السنين وبين افراط الحركات السلفية الجديدة في فرض النقاب والمنع من التعليم كحال طالبان وداعش والقاعدة وامثالها. حتى النقاشات التي شهدها العراق ابان اقتراح حزب عراقي صغير لقانون الاحوال الشخصية الجعفري قبيل بضعة أعوام ذكّرت بأن مستوى الوعي، كان متقدما نسبيا ومتنوعا، ويشير إلى حيوية فكرية وحقوقية وقانونية وفقهية، وهو ما يسمح بالقول بأن ثراء الافكار وتعددية الاتجاهات في العراق أمرٌ يستحق الاشادة منذ أن صارت قضية المرأة احد عناوين النهضة والتقدم، حيث شارك فيها رجال ونساء عديدون ابرزهم الشعراء الزهاوي والرصافي والجواهري وعالم الاجتماع الكبير الدكتور علي الوردي ومرجع كبير مثل العلامة الشيخ محمد امين زين الدين (ت1998).

موقف طالبان الاخير الذي منع تعليم البنات بمستوى الجامعات والاعداديات ومنعهن من العمل في الادارات لإعالة انفسهن وعوائلهن أو القيام بالاعمال التي ينبغي قيام المرأة بها (طب النساء) وغير ذلك، يمثل نكسة كبيرة وتحجرا في عقلية من يفتي لطالبان بهذه الفتاوى، كان لافتا تصريح وزير التعليم الطالباني الذي قال مفتخرا : انه لو ضربونا بالقنابل الذرية فلن نتراجع عن هذا الحكم (الشرعي)، طالبان منسجمة مع نفسها حينما تفرض احكاما لا تقرها حتى اقرب المدارس الدينية لها وهي المدرسة السلفية الوهابية، التي انصاعت منذ ثمانية عقود لمطلب تعليم البنات بعد رفض امتد طويلا، ما الذي يحمل العقل الطالباني على هذا الموقف الغريب المتفرد؟ لاشك انه الجمود العقلي والتصلب في الرؤى، واعتبار ذلك غاية المنى في ابراء ذمة شيوخ طالبان في اداء واجباتهم الشرعية، لكن أي واجبات هذه التي لم يقم بها احد سواهم؟، انها التكلف بما لم يكلفهم به احد، وتكليف الناس ما لا يطاق، والتضييق على البشر ونصفهم من النساء في طلب العلم ومكافحة المرض والفقر والتخلف، يطلب المشايخ على شاكلة شيوخ طالبان مساعدة العالم للتغلب على مشاكل العسر والفقر والتردي الاجتماعي والتخلف الاقتصادي، لكن هذه ليست أولوية عملية في برنامجهم الحكومي والسلطوي، بل مشكلتهم الحفاظ على الاخلاق العامة وعفة النساء ولو على بطون خاوية وعقول فارغة وذكورية متشددة في استعراض هيمنتها وسطوتها، لاتنقضي مشكلات المسلمين مع هذه العقول المسطحة، والمشكلة لا تنحصر في افغانستان وحدها أو في بعض مناطق الباكستان، فالتشدد من سنخ واحد في كل مكان، في السياسة والاقتصاد والثقافة والتشريع والامن والعلاقات الدولية، يخلق من المشكلات اكثر مما ينجز حلولا للقضايا التي يزعم التصدي لها بل يزيد التعقيد ويحمل الناس ما لا يطيقون.

أحسنت ايران اخيرا عندما اطلقت نقاشا حول حدود تدخل الدولة في فرض بعض الأحكام الشرعية كالحجاب، بعد أن صار السفور رمزا لتحدي السلطة وتذكيرها باخفاقاتها، ويحتاج متشددونا ان يتعلموا من التجارب الاسلامية على الاقل، ولا يجعلوا دوغمائيتهم السياسية ورؤيتهم الجامدة نهاية العالم، فما كان عندهم صوابا اليوم سينكشف غدا أنه مراهقة سياسية لااكثر، وسيضطرون إلى التراجع بعد ان تطاردهم الاخفاقات ويحاصرهم الفشل.