عمر الناصر
تبقى قدرات حكومة السيد السوداني مقيدة وغير جريئة في موضوع مكافحة الفساد، اذا لم يتوفر لها غطاء دافئ يقيها الصقيع السياسي القارس، واذا لم تتهيأ لها أدوات قاطعة وحادة، كإعطاء صلاحيات واسعة لهيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية بدعم مطلق من البرلمان، بوجود سطوة الجهاز القضائي، الذي يعد اليد الحديدية الضاربة والحامية للاستقرار
مع ضرورة اتفاق الخصوم على رؤية موحدة، تجنبنا لإعادة السيناريوهات المرعبة التي حدثت سابقاً في زمن الحكومات الماضية، ومنها تخلي الكتل السياسية عن دعم رئيس الوزراء لنهاية المطاف، وتركه يواجه أهوال التحديات الداخلية والخارجية لوحده، كونه سيكون بمثابة الانتحار السياسي ورصاصة الرحمة لجهود قوى الاطار التنسيقي وللمتحالفين معه، وفقاً لنظرية ائتلاف ادارة الدولة، وضياع فرصة ثمينة تدحض جميع التكهنات والتخرصات، التي تقول بأن الإطار غير قادر على إدارة
الدولة.
الجميع يدرك بأن مكافحة الفساد هي أهم ما ذكر في المنهاج الحكومي منذ عام 2003، فنسبة الأموال التي تم تهريبها إلى الخارج على سبيل المثال تقارب اكثر من 350 مليار دولار، أي ما يعادل 32 % من إيرادات العراق خلال اكثر من 17 عاما، ناهيك عمّا تمت سرقته من المشاريع الوهمية وعمليات غسيل الاموال داخل العراق، أصبحت على اثرها مهمة الكشف عن ديناصورات الفساد أكثر تعقيداً، وربما هي من ستحدد مصير جدلية الذهاب لانتخابات مبكرة من عدمها، في ما لو لم يبدأ صبر المقاطعين والمنسحبين من العملية السياسية وجمهور الاغلبية الصامتة بالنفاذ مبكراً، كونهم يراهنون على مدى جدية الحكومة في حسم هذا الملف الشائك والمعقد، وكأنه يمثل مثلث برمودا يبتلع كل من يحاول الاقتراب منه وينهي
وجوده.
لا بدّ من وضع أنجع الحلول وهي في نقطتين جوهريتين الأولى: اتفاق الكتل السياسية جميعاً على البدء فعلياً بمرحلة تصفير الازمات وفق الاجماع السياسي وضمن الفضاء الوطني، والنقطة الثانية التوجه بأقصى سرعة لتجفيف منابع الفساد، عن طريق حوكمة الدولة وتحوّل الادارة المالية في المؤسسات والوزارات من الانظمة الكلاسيكية المتبعة هذا اليوم، إلى الإدارة الرقمية المتطورة التي تراقب وتسيطر على ادارة الموارد، وجعلها حكومة الكترونية بإمتياز كما هو معمول به في السويد والمانيا واميركا وبقية الدول المتقدمة.
يدعم ذلك حلولا واقعية وجذرية واخذ مهمة مكافحة الفساد على محمل الحد، عن طريق جبهة معارضة برلمانية حقيقية نزيهة تولد من رحم الانتخابات، مهمتها الأساسية المراقبة والاشراف والتفتيش لقطع الطريق امام من يحاول العبث بمقدرات وثروات الدولة وحقوق المواطن، فالرقابة الاستباقية الخشنة والصارمة للاداء الحكومي والبرلماني، تكون هي حلقة الوصل الموثوق بها والمشهود لتاريخها بالنزاهة والامانة من قبل الناخبين، تتم فلترتها قبل جلوسها تحت قبة البرلمان لتمحيص وغربلة وتصفية وعزل الوصوليين والانتهازيين، ليكون البقية هم الصفوة التي تترجم حرفيا لمفهوم المشاركة الحقيقية للشعب في صنع القرار السياسي، وليساهم بصورة مباشرة بعملية تقييم وتقويم الاداء الرقابي بدقة متناهية، لأنَّ فك أحجية مكافحة الفساد، يبدأ أولاً من تفعيل مراقبة اداء مجلس النواب من قبل مجموعات الضغط الشعبية والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني، والناخبين الذين لهم الاحقية بمساءلة نوابهم عن انجازاتهم وتقاريرهم والمشاريع، التي تقدموا بها، وعدد مرات التصويت بنعم أو لا خلال فترة الدورة النيابية، بالمقابل يشعر النواب بأن مهمتهم دوماً تحت المجهر من قبل الرقابة الشعبية، لتكون آنذاك حركة تصحيحية تنبثق من رحم البرلمان، بدلا من الترويج لخرافة التغيير، الذي لا يكون الا بعوامل خارجية أو عن طريق الانقلابات حسب ما يزعم البعض.
على الرغم من انه لا يوجد خيار غير الاستمرار بدعم السيد السوداني وتقديم التنازلات من قبل جميع الشركاء السياسيين، إلا أنني أعتقد بأن دعم بواخر الكتل السياسية، لن يستمر ولن يصمد طويلاً امام رشقات ارادات السفن الاقليمية والدولية، أو ربما بسبب تلكؤ تنفيذ الشروط والإملاءات، التي تم وضعها قبل تشكيل الحكومة، والمقصود هنا الضمانات التي تتعلق بمطالب السنة والكورد، ولاسيما وجود بعض المؤثرات السياسية الناعمة التي تحركها قوى دولي، التي تقف على أرض رملية، تتعلق بهشاشة الاقتصاد وضعف تعدد وتعظيم الموارد، وتحكم اللاعب الأميركي بأموال النفط العراقية، وتذبذب سعر صرف الدولار الذي ربماأحرج موقف السيد السوداني مؤخراً، باعتباره كان أول المطالبين بإعادته إلى سعر الصرف القديم، لذلك باتت مهمته باختبار حقيقي وتحتاج لاوكسجين وإنعاش الأحزاب والقوى السياسية المؤمنة بالتغيير، ونكران الذات وتغليب المصلحة الوطنية على جميع الميول والانتماءات الحزبية
والفئوية.