علي محمود خضيّر
مع إطلالة كلّ عامٍ دراسيّ جديد تتعالى نداءات المواطنين حول أمراض التعليم العراقي المزمنة.
المتغير الوحيد أن المشاهدات باتت خيالية أكثر من الخيال ذاته. تلاميذ يفترشون الأرض بلا مقاعد.
صفوف في العراء، وأخرى تحت قماشة «جوادر» المآتم.
دوام ثلاثيّ ورباعيّ في مدرسة واحدة.
كتب منهجيّة يشتريها أولياء الأمور من السوق بأسعار مرتفعة، بينما المسؤول غارق في صمته.
في نيسان الماضي، صرّحت وزارة التربية في بيانات رسمية بأن العراق بحاجة إلى 9000 آلاف مدرسة للتخلص من الدوام المزدوج.
لدينا 16000 بناية، بينما المدارس الحكوميّة قاربت الـ 25000 مدرسة، تفاوت فادح يجعلنا أمام الحاجة لموازنة خاصّة تلبية لهذا العدد الكبير من المدارس.
شكوت لأحد مسؤولي التربية واقع بناية مدرسة ابنتي حيث تنحشر 55 طالبة في غرفة بلا تهوية ولا أجهزة تكييف، فشكا لي بأن الوزارة بلا تخصيصات، وأضاف، بظرافة وأسى، أن الدولة تصرف على أندية كرة القدم، ومحترفيها، بجديّة أكبر من صرفها على بناء المدارس!ويضيف صديقي مسؤول التربية، ذو المعلومات الرياضية الجيدة: «هل تعرف أن سعر محترف واحد في نادٍ جماهيري مدعوم من وزارة حكومية يساوي سعر بناء مدرسة بمواصفات عالمية؟ ويمكن بأقل الأحوال بناء مدرسة بعقد لاعبين اثنين من لاعبي الدوري العراقي!». قد تبدو مقارنات الرجل غير منطقية لأول وهلة، لكنها، بلا شك، تؤشر إلى اضطراب في أولويات التخصيص المالي الحكومي، فبينما تحتاج وزارة التربية إلى تخصيصات ومتابعة جادة لحل مشكل قلة المدارس في ظل تزايد أعداد الطلبة، تصرف وزارات أخرى مبالغ كبيرة سنوياً لدعم أنديتها المؤسساتية في تناقض واضح يلمسه المواطن من أولويات الدعم الحكومي. وزارة التربية ذاتها والتي تشكو شح التخصيصات لديها نادٍ رياضي! ناهيك عن صرفيات أخرى لطالما أثارت حفيظة المتابعين كمهرجانات الشعر والصحافة ومؤتمرات التنظير والاستهلاك الاعلامي والتي يرصد لها ميزانيات ضخمة. لا نقصد بهذه المقاربة أن الرياضة نافلة ولا داعي لدعمها. بالعكس، فالعالم كله بات يعرف اليوم أهمية الرياضة وكرة القدم تحديداً للشعوب بعد أن صارت صناعة كاملة قائمة بذاتها تضاعف من الدخل القومي لدول عديدة حول العالم، فضلاً عن المتعة والبهجة التي تضيفها لمتابعيها. لكننا نقصد أهمية التوازن في الدعم. وتقديم الأهم على المهم.
من يراقب التحديات التي تواجه الطالب العراقي وأولياء أمره يخرج بنتيجة أن الدولة لم تضع التعليم في رأس اهتمامها الستراتيجي ولا تفكر في دعمه. ويذهب آخرون أبعد حين يعدون هذا الإهمال متعمداً لفسح المجال أمام مؤسسات التعليم الأهلية التي باتت مشاريع تجارية رابحة لتفريخ الأموال وتخريب مبدأ العدالة التعليمية، فمن يملك أقساط الجامعة سيختار الكلية التي يريد وإن تدنى معدله، بينما قد تذهب طالبة إلى معهد تقني طبي بمعدل 98% وقد نقلت مواقع التواصل مؤخراً أكثر من حالة. إن أيَّ منهج حكومي لا يضع التعليم أولوية لن يكون سوى خطاب سياسي خاوٍ. ذلك أن إرادة بناء البلدان تبدأ ببناء انسان واع قادر على فهم نفسه والنهوض بمشكلات راهنه. وهذا لا يأتي سوى بالتعليم الحرّ ومشاريعه الواعدة. بالإمكان المسؤولين تخييب ظن المتربصين بهم بالعمل، منذ الآن، على تجاوز اخفاقات الموسم الدراسي المقبل. ليبدأ العمل منذ الآن على ملف طباعة المناهج، ولتكن خطة واسعة لاستئناف مشاريع المدارس المحالة والمتوقفة، ولننهِ ملف الدوام المزدوج، بالأخص مع توافر خزين مالي جيد لم يتوفر منذ سنوات. لا نريد للرسائل التي يتلقاها الطالب العراقيّ اليوم من واقعه التعليمي أن تدخل الإحباط إلى قلبه. لا نريد أن يحشر 60 طالباً في غرفة، أو أن يبعثروا في العراء بلا مقاعد أو سقف، لا نريد أن تُكسر ظهورهم بحقائب ثقيلة اشتروا كتبها أهليهم من السوق التجاريّة!.