سلام محمد
لكلّ عصر أدواته، ووسائله، وأساليبه في الحياة، وتتنوّع أدوات القتل من زمن لآخر، ولعل أخطرها وأقساها هو "الهاتف النقّال"، الذي سلب الإنسان من ممارسة الواقع إلى ممارسة الوجود الافتراضي بشكل كبير، فلم يعد الإنسان بحاجة إلى سلاح تقليدي؛ كي يدافع عن نفسه، ثمّ أنّ السلاح قد يصيب إنسانا وقد يتشافى ويعود إلى حياته بشكل طبيعي، بينما الهاتف لا يملك فرضيّة الإصابة، فهو يقتلك فقط، ولا خيار سوى الموت، والأخطر من ذلك أنّ الهاتف يوسّع دائرة القتل إلى العائلة ومن يرتبطون بهذه العائلة، وبل وإلى العشيرة ربّما، ففي ضغطة زر تتحوّل مجاميع من البشر إلى ركام، وإلى كائنات معزولة عن الحياة تماما، وقد مرت علينا كثير من الشواهد التي تمّ التصوير المحرج فيها فانتشرت المقاطع كالنار في كومة قشّ، وكان آخر هذه الاغتيالات ما حدث مع المتحرّش في الكرادة، فأنا متأكد أنّ هذا المتحرّش يتمنّى لو أطلقت عليه الفتاة رصاصة بالصمت ولم يحدث له هذا التصوير الذي عزله عن الحياة، والمجتمع، والوظيفة، وشوّه مكانة عائلته وتظل تتّسع دائرة الأذى عليه إلى ما لا حدّ له
ولا انتهاء. إنّ مشكلة الهاتف ليست كالرصاصة التي تصيب من يرتبط بالقضيّة، بل يصيب الهاتف أناسا لا علاقة لهم بالمشكلة ممن يرتبطون بصاحب المشكلة عائليّا أو اجتماعيّا، وبالتالي فإنّ الهاتف هو جهاز بعشر عيون فمثلما هو مصدر لإيقاف التحرّش هو في الوقت ذاته مصدر للتحرّش عن طريقه وعن طريق برامجه، ومثلما يحمل سيلاً من السلبيات لا مجال لذكرها هو أيضا يحمل رزمةً كبيرةً من الإيجابيات في الوقت نفسه، وقد اختصر الهاتف عيون ملايين الناس حين منحهم نعمة التصوير وهم في أماكنهم ووثّق كلّ ما يطرأ على الحياة؛ ولكنّه يقتل بطريقةٍ جماعيّة حين يكون في لحظة الدفاع عن النفس، وهذه هي أسوأ حالة يحملها الهاتف، وإن كان لا بدّ منها.