تسليع العلاقات

منصة 2023/01/11
...

  ميادة سفر


تتحول علاقاتنا البشرية يوماً بعد آخر إلى ما يشبه السلع التي يتم تداولها في الأسواق، وباتت تحسب مستوياتها بالنسب المئوية، ويتحدد نجاحها وفشلها بالأرقام، وهذا الحال ليس غريباً، طالما أنّ قيمة وعظمة الأشخاص والأشياء والأحداث تقاس بالأرقام، يقاس مدى نجاح منتج معين وفقاً لنسبة مبيعاته بغض النظر عن مدى الجودة التي يتمتع بها، والأحداث الفنية والعروض بأعداد المشاهدين والحضور، وصل الأمر أنّ قيمة شخصية عامة تتحدد بأعداد المشيعين والسيارات التي مشت في جنازته، واليوم تعلو أو تهبط قيم المشاهير تبعاً لأعداد متابعيهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وقس على ذلك الكثير من الحالات حتى وصلت إلى العلاقات الاجتماعية بين الناس.

يقاس نجاح العلاقات بين البشر وفقاً لمعايير جديدة من بينها النقود والممتلكات، وفي سعي الإنسان إلى النجاح في عمل ما يتحول كل شخص قريب منه إما إلى منافس، أو أداة للوصول إلى ما يطمح إليه، فإما يحاربه أو يتقرب منه لتحقيق مبتغاه، حيث تتحول العلاقات البشرية إلى صفقات تجارية وتقوم على اعتبارات الربح والخسارة، وتتوطد وفقاً للمكاسب التي يمكن تحقيقها، وعند انتفاء المصلحة تنتهي العلاقة وغالباً ما ينقلب الطرفان إلى ألد الأعداء وتبدأ الحروب الكلامية 

بينهما.

طالت النفعية علاقات الحب بين البشر، وتحولت عقود الزواج لدى البعض إلى عقود تجارية، حين تحصى ممتلكات الطرفين ويفتش الأهل عن الصفقة الأكثر ربحاً والتي من شأنها تحقيق أكبر قدر ممكن من العوائد المادية، فضلاً عن المهور العالية التي تشترطها الأسر لبناتها، ولعل توصيف عالم الاجتماع زيخمونت باومان الأكثر مقاربة للواقع، حين أطلق عليها في كتابه "الحب السائل" تسمية "علاقات الجيب العلوي"، مشيراً "إلى ضرورة الإبقاء على الآلة الحاسبة في يدك، فالمصلحة هي الغرض الوحيد من العلاقة، والمصلحة تتطلب عقلاً ثاقباً لا قلباً طيباً ولا ولهاناً".

لم يتوقف الحال عند هذا الحد، إذ تحولت الدول والحكومات والشركات الكبرى إلى مروج لتحويل الإنسان إلى شيء ورقم، من خلال الحديث المتكرر عن أنّ الزيادة السكانية الهائلة والفائض البشري يسببان الفقر والمجاعات حول العالم، في تلميح فاضح وتبرير موارب حيناً ومعلن أحياناً لكل أساليب القتل بحق البشر، فلا مانع من نشر الأوبئة والأمراض، وتلويث المناخ، وافتعال الحروب، لعلها تخفف من التعداد السكاني العالمي.

في ظل التطور المتسارع والكثيف للحياة بمختلف صوره، وجد الإنسان نفسه وقد تحول إلى أداة بيد الشركات تارة والأنظمة السياسية تارة أخرى، حيناً يعامل كسلعة يتم تداولها والمتاجرة بها، وطوراً مستهلكاً لكل ما يقدم له من منتجات، لدرجة أنه نسي قيمته الأساسية كإنسان وأصبح أشبه بالروبوت المسّير بلا أفكار ولا عواطف 

ولا قيم.

ليس من السهل تجاوز كل ما يجري من حولنا وعدم التأثر به، لاسيما لجهة المصالح التي تتحكم بعلاقاتنا مع المحيط، لأن اللهاث وراء تأمين سبل للحياة وانتهاز أية فرصة تتاح في ظل قلة الفرص، يبرر للبعض تنحية القيم الإنسانية جانباً ريثما تتغير الأحوال وتتحسن الظروف، على ألا تتحول حياتنا إلى ماكينات للإنتاج والاستهلاك فقط، فما زال لدينا من إنسانيتنا ما يستحق الحياة..