الموجات الثقافية الوافدة حقيقة أمْ وهم؟

آراء 2023/01/11
...

 علي حسين عبيد

لكل اكتشاف جديد جانب جيد وآخر مسيء، لا يوجد منتَج في عالم اليوم الصناعي، خالٍ من هذه الحقيقة، حقيقة كونه جيدا وسيّئا في الوقت نفسه، هذا على الصعيد المادي، أما على الصعيد الفكري والثقافي فلا يُستثنى هذا الجانب من قانون الجودة والرداءة في عمق الأشياء المادية والثقافية وسواها.

الثقافة يمكن أن نعدّها منتَجاً غير ملموس، ولكن هذا المنتَج يتفوق في تأثيره على معظم المنتجات المادية الصناعية، فالثقافة هي التي تقود الناس، وترسم لهم طرق النجاح أو الفشل، لكن الصناعات المادية قد لا تمتلك قدرة الإطاحة بالإنسان كما تفعل الثقافة، لماذا هذا التمايز بين الثقافي والمادي الملموس؟ المادة ينحصر تأثيرها في شكل الإنسان، فإذا ارتديت ملابسَ جديدة قد يؤثر عليك هذا الملبس لساعات أو أيام، ثم ينتهي المفعول النفسي لهذا الملبس الجديد، ولكن تأثير الكلمة والفكر يدخل إلى أعماق الإنسان، ويغيّره من الداخل، ويبني شخصيته، ويتحكم بأفكاره ومن ثم بأفعاله ومبادئه، ولهذا قيل (إذا هزلت ثقافة الأمة، هزلت الأمة).

هذا يعني أن الموجات الثقافية الوافدة إلى العراقيين وغيرهم ليست وهما، ولا هي محض خيال، لا سيما أن وسائل التوصيل باتت معروفة وسهلة الاستخدام، كما أن قدراتها على العرض والتوصيل صارت مذهلة، بحيث في لحظات يمكن لأي شخص أن يرى العالم كله، ويطلّع على الثقافات وأنواع التفكير، من دون موانع ولا حواجز، كما كان يفعل مقص الرقيب في أيام المنع والقمع والمحاصرة.

حتى المنع الإلكتروني للمواقع العابرة للبلدان والأمم ليس مجديا، فكم مرة قامت بعض الأنظمة السياسية بقطع الإنترنيت عن شعوبها، لكن سرعان ما حصلت تلك الشعوب والأفراد على برامج لكسر التحديد والمحاصرة، وهناك أمثلة عديدة حول هذا الأمر، إذ لم تعد عملية القص والمصادرة والمحاصرة نافعة للأنظمة التي تلجأ إليها.

لهذا من الأفضل لنا جميعا أن نقرّ بحقيقة وجود الموجات الثقافية الوافدة، وعلينا أن نتعامل معها على أنها أمر واقع لا يمكن التخلص منه، وغالبا ما تكون مواجهة المشكلات هي الحل الأمثل لها، فإذا أقررنا بوجود الثقافات الوافدة، علينا أن نقرّ أيضا بقوة تأثيرها على عقولنا، وهذا هو الأخطر في هذه القضية التي يجب أن ننفي كونها وهما، بل هي حقيقة واقعة.

الثقافة الوافدة أحد منتجات الاكتشاف المذهل لعصرنا هذا، وهو عملية التواصل المفتوح بين جميع سكان الأرض، ولا سبيل لمنع أو قمع أو قطع هذا التواصل بشكل كلّي حتى لو تم حبس الناس في حيّز مكاني اسمه وطن، هذه الحقيقة يجب أن تدفع الجميع إلى معطيات واضحة ومهمة، أول هذه المعطيات أن الثقافات لم يعد بالإمكان منعها أو صدّها.

ثاني المعطيات، أن نفهم هذه الثقافة الوافدة، وأن نعرف مغزاها وأغراضها، والثالث، هو الكيفية التي نتعامل فيها مع هذه الثقافات الوافدة، ليس بطريق الهروب وإنما بطريقة المواجهة، فالثقافات حقيقة وليست وهما، وإذا تم الإقرار بذلك من قبل أعلى المستويات، فإن الاستعداد للمواجهة يصبح ممكنا، وهو الحل الأهم والأفضل للتعاطي مع مشكلة الموجات الثقافية الوافدة، لاسيما الرديئة والمسيئة منها.

المعطى الأهم من جميع المعطيات، لا ينبغي أن نضعف أمام الموجات الثقافية الوافدة، ولا يجب أن نواجهها بالطرائق المتخلفة، بل علينا أن نثق بثقافتنا وتقاليدنا وأصولنا، وهذا يستدعي جهودا فكرية ثقافية كبيرة، على المعنيين تنظيمها وتوفيرها وتفعيلها، كي تكون المصد للثقافي الرديء في عصر التفاهة الذي هيمن على عالمنا بشكل مريع.