أ.د.عامر حسن فياض
بعد أن تمكن الرومان من هزيمة ما بقي من الدولة المقدونية، أخذوا معهم ألف رهينة من صفوة المفكرين والسياسيين والقادة اليونانيين، بوصفهم أسرى سياسيين تمهيداً لتقديمهم للمحاكمة التي لم تتم، وبقي هؤلاء رهائن لدى روما سبع عشرة سنة، أفرج بعدها عن الأحياء منهم، ويقدر عددهم بثلاثمئة شخص كان من بينهم (بوليب أو «بوليبوس» حسب اللفظ الاغريقي 254 ق.م - 122 ق.م)، وكان يعمل دبلوماسيا في الاتحاد التعاهدي (الكونفدرالي) اليوناني
ثم أُخذ ضمن الرهائن الاغريق إلى روما.
لكنه فضّل البقاء في روما بعد الافراج عنه، لما كان له هناك من صلات مع العديد من الحكام والقادة العسكريين والمثقفين والساسة والمشرعين، مما أشعره بالارتباط الوثيق بروما والولاء لها، حتى وثق به الرومان وكلفوه بتمثيل بلادهم في مهام سياسية دبولماسية وعسكرية في أوروبا وآسيا وافريقيا، فتوفرت له بذلك خبرات واسعة ومعرفة عميقة بالنظام السياسي والعسكري الروماني وخصائصه وعناصره.
كتب بوليب كتابه (التاريخ) في أربعين جزءا، أرّخ فيها لروما ونشأتها وتطورها ونظمها السياسية والإدارية، إلا أن ما بقى من كتابه لا يزيد على خمسة أجزاء وقطع متناثرة من الاجزاء الباقية.
واستعرض الكتاب تاريخ التطور السياسي الروماني منذ انتصار روما على مقدونيا عام 210 ق.م وحتى أصبحت دولة امبراطورية عالمية، وهي مرحلة تاريخية حافلة بالأحداث الكبيرة، عالجها بوليب بعمق وأصالة أهلاه لأن يُدرج ضمن كبار المؤرخين القدامى أمثال (هيرودوت حوالي 484 - 425 ق.م) وإن لم يخل عمله من التحيز لروما وسياساتها كما ساهم بوليب ايضا بدور كبير في تنقيح الفلسفة الرواقية وتنظيم افكارها ونقلها إلى الفكر الروماني بما يستجيب لمطالب ذلك الفكر واحتياجات بيئته الواقعية.
ويُعد بوليب أول من استخدم المدخل المؤسسي في دراسة الظاهرة السياسية، وأول من ربط بين السياسة الخارجية للدولة وسياساتها الداخلية وبنائها المؤسسي والايديولوجي، مستنتجاً من تطبيقه لذلك على الامبراطورية الرومانية، أن مرجع قوتها وعظمتها ليس شخصية قادتها وزعماءها، بل طبيعة مؤسساتها وعمق خبرتها وتجسيد سياساتها الخارجية لمبادىئها وعقائدها ونظامها السياسي
المؤسسي.
وبربطه بين قوة الدولة وطبيعة مؤسساتها، أعطى بوليب لهذه المؤسسات الدورالاساس في ترسيخ قوة الدولة، وطبق رأيه في هذا الشأن على النظام السياسي الروماني، الذي كان له الفضل الاول في تسجيل تاريخ تطوره السياسي منذ نشأته وحتى قيام الامبراطورية الرومانية وسيطرتها على العالم القديم وأقاليمه وشعوبه.
واتخذت أفكار بوليب السياسية من (نظرية نظام الحكم المختلط)، إطاراً وتجسيداً لها، حيث ناقش في الجزء السادس من كتابه (التاريخ) طبيعة الدستور الروماني وخصائصه، وسجل اعتقاده بأن الانظمة السياسية تمر بدورات تاريخية متعاقبة من الولادة والنمو والتراجع والاضمحلال، مقتبساً عن أفلاطون ما ذهب اليه من قبل بشأن (الدورة التاريخية التحولية للنظم الحكومية)، وتأكيده أن كل نظام سياسي يحتوي في داخله على عناصر تراجعه واضمحلاله وسقوطة تمهيداً لقيام نظام آخر بدلاً منه.
حيث تنتهي الحكومة الملكية إلى نظام فردي استبدادي، وتنتهي الارستقراطية إلى نظام نخبوي أوليغارشي، وتنتهي الديمقراطية إلى نظام شعبي غوغائي، وهكذا في دورة دائمة ومستمرة.
وعن الديمقراطية عندنا نحذر ما حذر منه بوليب عندما أكد أن النظام الديمقراطي عرضة للفساد بفعل مطامع بعض الناس وفساد بقية أفراد الشعب بتعودهم العيش من جهود الآخرين، ونهب أموالهم وعندها يبدأ تحول النظام الديمقراطي غير المسلح بالمؤسسات والمؤسساتية إلى نظام حكم غوغائي يجسد أسوأ صور النظام الديمقراطي لانفراط عقد الأمن والاستقرار فيه وضياع هيبة القانون، فلا يجد الشعب خياراً إلا الالتجاء للأقوى والأقدر والأكثر فاعلية، لإعادة الامن والنظام وترسيخ السلطة فيعود التسلط من جديد وتعود الدورة النظمية إلى الوراء لتتحرك دون رادع ولا مانع إلى حكم التفرد والتسلط.
وهكذا دون المؤسسات والمؤسساتية فان القادم أما فوضى جاهلة أو تسلط فرد لا يجيد إلا الذهاب إلى تقييد الحريات وكتم الانفاس.