نرمين المفتي
برغم أهمية الدراسات والبحوث الميدانية والعلمية، أجزم بأننا لسنا بحاجة إليها لنلمس مدى حاجة الطفل في العراق إلى من يحميه والى قوانين تحفظ حقوقه وحياته وكرامته.. فأطفال الشوارع في كل شارع في بغداد والمحافظات، بل حتى في الطرق الخارجية بين المحافظات، والاطفال نجدهم في مساطر العمال وفي الأسواق وفي محال تصليح السيارات ومع شركات التنظيف.. إن قانون العمل 37 لسنة 2015، يمنع تشغيل الأطفال دون سن الخامسة عشرة، وحصر السماح بتشغيل من هم بين 15 - 18 سنة، وفق شروط ورقابة وفي مهن محددة. واستنادا إلى الخبير القانوني، علي التميمي، أن «القانون حدد عقوبة على أصحاب العمل إذا تمَّ خرق القانون»، لكنه وفي حوار سابق مع (الجزيرة) يرى «أن هذه القوانين ولدت شبه مشلولة في الأصل ولا تطبق».
هذه ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن وضع الطفل والطفولة في العراق، فقد كتبت العشرات من التحقيقات الصحفية والمقالات منذ 1984، لكن الواقع استمر مؤلما للطفل بسبب الحروب، وغياب ولي أمره والحصار، ومن ثم الاحتلال والحرب الطائفية والتهجير والعنف والعمليات الاجرامية للارهاب الظلامي.
وقبيل كتابة هذه المادة، راجعت عددا من عناوين رسائل ماجستير ودكتوراه نوقشت في الجامعات العراقية قبل 2003 وبعدها، لم أجد بينها عنوانا يفي بالغرض، قطعا هناك رسائل عن وضع الطفل العراقي، لكنها استمرت على رفوف المكتبات الجامعية ولم تنتبه إليها الجهات المختصة، تماما كما القوانين التي لا تطبق.. وهنا أشير إلى ايقاف العمل بقانون التعليم الالزامي في سنوات الحصار بذريعة أن الأسر الفقيرة بحاجة إلى عمل الصغار، وهكذا بدأ التسرب من المدارس، وتمَّ خلق جيل لا يعرف غير الشارع ومواجهة الصعوبات وبينهم من لم يتمكن من مواجهتها و(لجأ) إلى الجريمة أو العمل في (مهن) غير اخلاقية، وكانوا كما أشرت إليهم في مقال لي في منتصف التسعينات (قنابل موقوتة) تهدد الحاضر والمستقبل.
أثار الفيديو الذي تناقله المدونون العراقيون على مواقع التواصل الاجتماعي لطفل في (ملهى) ليلي يرمي بالأوراق النقدية على راقص، في انتهاك واضح ليس للطفولة فقط إنما لقيم المجتمع، إن كانت لدينا بعضها، أقصد القيم، الكثير من الانتقادات وعرضت الفضائيات تقارير عن الفيديو وكيفية حماية الطفولة.. تقارير استمرت ليوم أو يومين فقط، كما يحدث مع اية قضية أو مشكلة في العراق، ربما لكثرتها أو اليأس من الحلول، يتم نسيان ما حدث أو نُشر.
الطفل مستقبل البلد، اي بلد، ولا يوجد استثمار للمستقبل افضل من استثمار الطفل.. ونظرة واحدة إلى قوانين حماية الطفل والأسرة في الدول المتطورة علميا واقتصاديا واجتماعيا ورياضيا وفنيا، ستشرح لنا معنى هذا الاستثمار.. وتخول القوانين لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية على معاقبة المتسبب في تشغيل الأطفال بعقوبة تتراوح بين «الغرامة المالية وإيقاف التصريح لرب العمل»، أو حتى إيقاف النشاط. وفي قانون الاتجار بالبشر، يعاقَب من يستغل شخصا لا يعي حقه -كالأطفال- بالسجن أو الغرامة المالية، لكننا لا نزال نرى أطفالا يعملون في التنظيف وغالبا لا يقوم رب العمل بتسجيل أسمائهم في دوائر الضمان الاجتماعي، وهو، اي الطفل، لا يعرف القوانين ولا يعرف حقوقه وبالتالي يخسر صحته ومستقبله معا.. لم يكن فيديو الطفل في ملهى ليلي انتهاكا صارخا بحق الطفولة في العراق، فهناك المئات من الانتهاكات الصارخة بحق الطفولة، مثلا عدم وجود أبنية مدرسية كافية ودوام ثلاثي في بعض منها، أي أن الطفل يحرم من دروس الرياضة والفنية، ويحرم من وقت كاف للتعليم، لمدة الدرس 30 دقيقة وليست 45 دقيقة، فضلا عن اكتظاظ الصفوف بالأطفال.. والوضع في المستشفيات ليس افضل، وللمثال وليس الحصر، أجرى طفل عملية في قلبه ويحتاج إلى علاج بصمته ابر، سعر الواحدة منها (208) آلاف دينار، ولا بد من شرائها من الصيدليات الخاصة، لان توفرها في المستشفيات العامة شحيح جدا.. اما الأسر التي تمتهن التسول وتترك الابناء والبنات في الشارع، فحدث ولا حرج.. وقطعا لا أنسى الاشارة إلى الضغط النفسي، الذي واجهه الأطفال عند التهجير أو النزوح.. وعدم تمرير قانون حماية الطفل في مجلس النواب، انتهاك ايضا.. انتهاكات الطفولة في كل مكان حولنا، من ينتبه إلى مستقبل العراق، سؤال ليس إلا؟.