المهندس

آراء 2023/01/12
...

 د. عبد الخالق حسن

في أيام الحرب التي أسقطت نظام صدام في 2003، كان بإمكان العراقيين التقاط بث قناة إيرانية ناطقة بالعربية، انشغلت بنقل سير العمليات، التي كانت تقودها الولايات المتحدة في طريقها نحو بغداد. كانت تلك القناة هي قناة العالم. في أثناء النشرات الإخبارية، كان يظهر محلل عسكري يشرح طريقة تحرك القوات المتقدمة براً نحو بغداد. رجل بنظارة في عينيه، أشيب الشعر. يحلل العمليات العسكرية ويستبق ويتوقع الكيفية التي ستتقدم بها القوات الأجنبية. لم يكن الكثير يعرف هذا الشخص البارع والمحترف الذي كان اسمه (أبو مهدي المهندس). لكن المطلعين على تاريخ الحركة الإسلامية في المهجر، كانوا يعرفون قيمة هذا الشخص الذي كان ذات يوم رئيساً لأركان قوات بدر، التي تأسست لمواجهة السلطة الغاشمة لنظام الدكتاتور في العراق. تاريخ المهندس الجهادي هو تاريخ طويل وحافل بالمواقف الباسلة.فهو منذ مطلع شبابه التحق بالعمل الإسلامي حين كان النظام يعمل على قطع كل الجذور الروحية، التي يرتبط بها العراقيون من أجل تأسيس نظام مشوه لا يمكن تعريفه وفقا للنظم السياسية. نظام خليط بين ولاءات ترفع من شأن الانحدار الإخلاقي وتبتعد عن رفع قيمة الإنسان.

ومثل غيره، من شباب الحركة الإسلامية، غادر المهندس بعد أن أصبح مطلوباً للنظام، ومن هناك ابتدأ صفحة جديدة من العمل الجهادي، كان التركيز فيها يقوم على استهداف النظام دون المساس بالبنية التحتية للعراق، من محطات كهرباء أو مستشفيات أو أسواق أو غيرها من الدوائر الحكومية. وهذا هو الفرق بين من يحمل معنى المعارضة الحقيقية، وبين ما شاهدناه بعد 2003 من تنظيمات كان تحمل اسم معارضة النظام السياسي، لكنها كانت تستهدف مقومات الحياة، وتستهدف الناس في الأسواق.

عاد المهندس للعراق بكثير من الشيب في رأسه، وكثير من الأمل والتفاؤل في انقاذ العراق من خراب الدكتاتورية وبقاياها. لم تكن تعجبه المكاتب الأنيقة أو الغرف المترفة، بل كان رفيقاً للبساطة والترابية التي ما فارقت سلوكه.

وحين اشتد البأس على العراق، وسقطت محافظات فيه تحت وقع حراب الإرهاب، كان المهندس هو أول الذين شكلوا غرفة عمليات لإيقاف تمدد الارهاب. وبالفعل، كانت القوات التي يقودها استجابة لفتوى الجهاد قد عملت على تأمين الطرق وصولاً إلى سامراء. ثم لاحقاً استمر إشرافه على العمليات حتى تحقق النصر. كان المهندس يلتحف التراب على السواتر ويتوسده، وكان يوصي كل قوة تحت إمرته بأن يحفظوا كرامة الناس في المناطق المحررة ويعاملوهم بإحسان حتى يشعروا بالأمان الذي فقدوه على يد الإرهاب.

ولأن رحلة المهندس الطويلة لم تكن تكتمل من دون نهاية تليق به، لهذا كان المهندس على موعد مع الشهادة هو ورفيقه الجنرال سليماني ومعهم ثلة من الرفقاء، في حادث سيظل شاهداً على عدم احترام العهود والمواثيق، التي كان يفترض أن تتعامل بها أميركا مع العراق، حين استهدفت مطاراً مدنياً، وقائداً عسكرياً عراقياً، فضلاً عن استهداف ضيف كبير حلَّ على أهل العراق.