علي العقباني
احتضنت صالة المركز الثقافي العربي بأبي رمانة في دمشق قبل أيام قليلة معرض التشكيليات السوريات الشابات (عبير بريك هنيدي، وليزا غازي، وبثينة عرابي، ودعاء بطيخ)، والذي ضم عدداً من لوحات يمكن القول عنها بإن كل تجربة منهن تنتمي لعالم لا يشبه الأخريات، بالرغم من تقارب أعمارهن والمدارس التشكيلية التي تنتمي إليها الأعمال والاتجاهات الحديثة والمعاصرة الواضحة في اشتغالات تشكيلية واختلاف البيئة.
ففي لوحات الفنانة التشكيلية الشابة والروائية القادمة من حلب دعاء بطيخ، وجوه خائفة فزعة تشعر بالعزلة والوحدة في سماتها صراخ مخنوق وعتابات خفية خلف التفاصيل تحاول الاختباء من العالم وراء أصابع أيادي تتطاول فاردة نفسها على مساحة الوجه، لكنها لا تغطيه أو هي لا تستطيع منع الصراخ المختبئ خلفها من المرور.. لوحات بخيال أنثوي عبق بالألوان والتشكيلات التي تتدرج من الواقعي إلى التجريدي والتعبيري حتى في لوحات الأغصان أو الأشجار العرية، لا شيء مريحاً في عوالمها التشكيلية بعكس حضورها، فإيماءات الوجوه وتطاولها وتعبيراتها القاسية ربما عميقا صرخة في فضاء عالم ذكوري واختباء من مجهول.. هي شخصيات قلقة مجنونة خائفة مبتورة عارية من محيطها التكويني الذي شكلته الحرب، معزولة حتى في فضاء اللوحة ومساحتها التي تستخدم فيها ألواناً حارة ولطخات تدرج اللون من قتامته إلى بياضه بإيقاع مأساوي
صارخ.
في مكان آخر تتأرجح لوحات الفنانة التشكيلية ليزا غازي، خريجة معهد الفنون التطبيقية عام 2004 والقادمة من صافيتا بين الطبيعة والأنوثة بحالاتها المختلفة والمتداخلة كرمز للجمال والسلام والحياة، وكذلك بين تجريدية بسيطة غير معقدة وواقعية مفرطة في الرسم والدلالة لا تلغي جماليات اللون والايقاع العام للوحة في تكويناتها الخاصة، والتي تعطي إشارات لقراءات محتفلة لكل لوحة ولآلية توزع اللون فيها.. هي مناخات لونية وبصرية تعبر عن أفكار وهواجس جمالية تعكسها توزع الخطوط والأحجام والحركة في "لطشات" اللون التي تتكرر في معظم أعمالها، وتعكس إلى حد كبير التأثر الظاهر بعديد من المدارس الفنية، خصوصاً في رسم الأجساد والوجوه وحركة الخط وتدرج اللون، بما يعطي انطباعاً عن البيئة في البحر والجبل التي تنتمي إليهم الفنانة في زخم لوني بارز وحاد بمعطى جمالي وثقافي مميز بمساحات لا تغطي كامل البياض، بل تبقيه لاشعاع مناخات التشكيل المبعثرة هنا وهناك.
التركيز على الوجوه والأجساد وبعض الجمادات سمة لوحات الفنانة بثينة عرابي القادمة من حلب، فمن الطفولية الخالصة إلى الوحشية المفرطة مسافة من الاشتغال التشكيلي والبصري واللوني عند عرابي، التي وإن حاولت الميل إلى البساطة أو التبسيط فإن لوحاتها تتسم بعمق وجنون لوني وتعبيري مفرط، يطغى عليها الأصفر والأخضر بتدرجاتهما ونسيجهما المتداخل، ونكاد نشعر في بعض لوحاتها أنها أنهتها بضربة واحدة دون توقف بلهاث محموم ومتواتر يعكس رغبة في التخلص من تلك الحالة التي تلبسها.. لوحات صغيرة ببهاء تعبيري ولوني آخاذ وحساسية مفرطة اتجاه الشكل والتكوين العام سمة لأعمالها التي تميل للاختصار والتكثيف والاختزال.
بعفوية وحيوية وبساطة تشاغل الفنانة التشكيلية عبير بريك هنيدي عالمها التشكيلي، وتضعنا أمام لوحاتها الغنية بالتكوينات الإنسانية والنباتية تحمل كل منها عناصرها الخاصة وحركية الألوان المفعمة بالحياة وبمفردات تتسم بالعفوية، متسائلين عن ذاك المزج المحبب بين الواقعي والتعبيري والخيالي في تكويناتها، وأشكالها الفنية، وعناصر اللوحة لديها، فتحور في الوجوه بتعبيرات مميزة تلامس ما خلفها، وصولاً إلى حالته الداخلية والتعبيرية من دون الإساءة إلى الجمالية، فنقرأ فيها القلق الإنساني والخوف والتذمر وأحياناً السكينة والتوتر.. حالات إنسانية متناقضة ومتكاملة في التعبير عن الذات في اشتغالاتها الوجودية والنفسية المحمولة على ألوان حارة وباردة وبخطوط قاسية تارة وحانية تارة أخرى.