طالبان تُصعّد إجراءاتها ضد تعليم الفتيات

بانوراما 2023/01/12
...

  نبيه بولس

  ترجمة: فجر محمد

عندما تفكر (زهرة وفاء) في ما يتطلبه الأمر لإلحاق بناتها بالمدرسة، تتصلب ملامح وجهها، وتتذكر الأيام التي كانت تكتفي فيها هي وزوجها بالخبز فقط لتوفير تعليم أطفالهما، وكيف بدا الأمر مستحقا لكل هذا العناء لمنحهم فرصة لمستقبل خارج قرية «ناوا فولادي» الواقعة وسط أفغانستان. تلك القرية ذات المسار الترابي الواحد، والتي تضخ فيها الآبار بشكل يدوي ولا توجد كهرباء فيها.

ثم تتذكر وفاء الواقع الجديد في ظل حكم طالبان، وتتلعثم في الكلام بسبب فكرة أنه ربما كان كل هذا هباءً. وتعلق: «لقد عملنا بجد، وأنفقنا الكثير من المال على التعليم، وأولادي أذكياء للغاية. فهل من المفترض الآن أن يجلسوا في المنزل فقط.. كلما فكرت بذلك أصاب بصداع».

وبعد أكثر من عامٍ من الانهيار السريع للدولة المدعومة أميركيا وصعود طالبان إلى السلطة، تقاوم وفاء وبناتها، مثل العديد من نساء أفغانستان، رؤية طالبان المتشددة للبلاد وخطتها لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء ليس فقط بتعليمهن وإنما بوجودهن في الحياة العامة.

تدعي حركة طالبان أنها لا تفكر بإعادة نظام التسعينيات، عندما مُنعت الفتيات من الالتحاق بالمدرسة وبجميع الوظائف تقريبا، وتعرضت النساء للعقاب البدني بسبب مخالفات مثل عدم ارتدائهن البرقع الأفغاني في الأماكن العامة. ومع ذلك، يتم إصدار قرارات جديدة كل بضعة أشهر حول الوظائف التي قد تعمل بها المرأة، وإلى أي مدى يمكن أن تسافر دون ولي أمر وما قد ترتديه خارج المنزل. ويبيّن أحد المنشورات أن أكثر النساء تقوى لا يجب ان يغادرن المنزل مطلقا، ما لم تكن هناك حاجة لذلك.

مؤخرا، أمرت «وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» الأفغانية التي تشغل المبنى الذي كان يضم وزارة شؤون المرأة سابقا، بمنع النساء من دخول مدن الملاهي. كما تم منعهن من الصالات الرياضية والحمامات الشعبية والصالات العامة، التي كانت مفصولة بالفعل حسب الجنس.


التعليم الثانوي

كان التعليم الثانوي نقطة حساسة بشكلٍ خاص. وفي خريف العام 2021، سمحت السلطات للفتيات الأفغانيات بالتسجيل في المدارس الابتدائية والجامعات ووعدت باستئناف التعليم الثانوي في بداية العام الدراسي الجديد يوم 23 اذار الماضي. لكن في ذلك اليوم، ومع تدفق الفتيات الى مدراسهن الثانوية وصفوفهن الدراسية، عكس المسؤولون مسارهم الدراسي، وتأجلت الدراسة إلى أجل غير مسمى لحين إعداد خطة شاملة وفق «الشريعة والثقافة الأفغانية».

في تشرين الأول من العام الماضي، سمحت الحركة للطالبات اللائي كن في الصف «الثاني عشر» قبل انهيار النظام الجمهوري بإجراء امتحان تحديد المستوى الجامعي المعروف باسم «كانكور»، لكن السلطات منعت التخصصات التي اعتبرت غير مناسبة للفتيات لمتابعة دراستهن فيها، بما في ذلك الاقتصاد والهندسة والصحافة والطب البيطري.

كان للتشدد ضد تعليم الفتيات عواقب مادية في واحدة من أفقر دول العالم. اذ ترى مجموعات المعونة الدولية، التي تقدم الآن المساعدة لنحو نصف سكان أفغانستان تقريبا، أن عكس مسار التعليم الثانوي يعد نقطة انعطاف أثرت في استعداد المانحين لتقديم المساعدة. ولطالما إدعت الحكومات الغربية النداءات بحقوق المرأة كمبرر أساسي لاحتلالها لأفغانستان سنة 2001، وأشارت إلى التقدم الذي أحرزته المرأة باعتباره نقطة مضيئة نادرة في تجربتها التي استمرت عشرين عاما في بناء الأمة. حتى أن رجال الأعمال الأفغان غيروا مسارهم بعد أن كانوا يعيشون في الخارج وكانوا مهتمين بالعودة إلى وطنهم، فعادوا بالفعل للاستفادة من هبوط مستوى القتال الذي تشهده البلاد منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي.


تغيير المسار

قبل صدور قرار وقف التعليم الجامعي الذي صدر الشهرالماضي كان هناك تفاؤل. وبدأ الناس يشعرون مع أواخر العام 2021 بأن الأمور تسير في اتجاه جيد وآمن. ويرى سليمان بن شاه، المسؤول السابق في وزارة التجارة والصناعة الأفغانية الذي لا يزال يعيش في كابول، أن تغيير النظام لموعد افتتاح المدارس الثانوية، كان بمثابة تغيير لقواعد اللعبة».

ويقول بن شاه: «إن الطاقة التي تم بناؤها للارتفاع بمستوى البلاد هبطت من جديد. فالمانحون، أوقفوا خططهم، فضلا عن الأشخاص الذين لديهم خطط استثمارية لفصل الربيع المقبل، فهم ايضا لديهم أطفال ويريدون تعليمهم، لذلك أوقفوا كل شيء، وأخذوا عائلاتهم وغادروا».

في مواجهة الازدراء الدولي، يصر مسؤولو طالبان على أنهم يطبقون الشريعة وأن الغرب، بدلاً من الاهتمام الحقيقي بحقوق المرأة، يستخدمونها كعصا لمعاقبة الجماعة على الانتصار في الحرب. اذ أشار المسؤولون إلى أن البلد أكثر سلاما الآن منذ عقود، ما يعني أن المزيد من الأطفال بمن فيهم الفتيات سيتمكن من الذهاب إلى المدرسة، وأن الإمارة التي بنتها طالبان على بقايا الجمهورية المهزومة تعكس بشكل أفضل ما يريده معظم الأفغان. 

ربما تكون هذه النقطة الأخيرة صحيحة في الأجزاء الجنوبية الأكثر تحفظا من البلاد، مثل قندهار، حيث نشأت طالبان لأول مرة. لكن مناطق أخرى فرضت حياة أكثر انفتاحا على النساء تحت ظل الجمهورية المدعومة من الولايات المتحدة، وقدمت حريات انسجم معها الكثيرون.

تقع مقاطعة باميان في منطقة المقاطعات الوسطى لأفغانستان وهي ذات طبيعة جميلة بشكل ساحر ويقطنها أقلية الهزارة الشيعية التي غالبا ما تعرضت للاضطهاد السابق من قبل حركة طالبان، لكن الضغط عليهم تراجع مؤخرا مع سيطرة الحركة على البلاد مجددا في آب 2021. 

وبدلا من ملابس الحجاب  الكامل أحادية اللون، كانت النساء ترتدي الحجاب الملون وحتى الآن ما زلن يظهرن وجوههن في الشارع، رغم التحذيرات العرضية من شرطة الأخلاق التابعة لطالبان. لكن هذه الأقلية استفادت خلال فترة النظام الجمهوري بشكل كامل من الفرص التي أتاحها الغزو الذي قادته الولايات المتحدة، ليصبحوا أطباء ومحامين وجنود وصحفيين. 

تفكر زهرة وفاء الآن بانها ستخسر كل ذلك. أما مينا؛ اكبر بناتها البالغة من العمر 20 عاما، فقد أنهت الصف الثاني عشر قبل وصول طالبان للسلطة. اذ كانت تخطط لدراسة القانون وتطمح لأن تصبح عضوا في البرلمان أو دبلوماسية تمثل أفغانستان في الأمم المتحدة.

«بالطبع لن يحدث شيء من هذا الآن، لقد انتظرت لأكثر من عام لتأخذ «الكنكور»، لكنها لم تكلف نفسها الآن عناء التقدم لدراسة القانون أو أي شيء آخر لا علاقة له بالطب، وهو أحد المجالات القليلة المفتوحة للنساء في ظل حكم طالبان. وتتابع مينا قائلة:» طالبان لا تهتم بالدستور ولا بحقوق المرأة. إذا استمر الوضع هكذا ، فلن يتم توظيف من يدرس القانون».


إغلاق المدارس

على الأقل لم تكن مينا في طي النسيان مثل أختها زينب البالغة من العمر 16 عاما في الصف العاشر، التي تأمل في أن تصبح طبيبة، وهو حلم يمكن تحقيقه إذا كان من الممكن إنهاء دراستها الثانوية. ولكن مع إغلاق هذه المدارس، سيكون الفصل الدراسي لهذه العائلة هو آخر ما تصل إليه مجموعة الفتيات الأفغانيات اللواتي يحلمن بالالتحاق بالجامعة.

وتوضح مينا «في المرة الأولى التي استولت فيها طالبان على السلطة، كانت والدتي هي من تحملت العواقب اما الآن  بعد 20 عاما، فنحن نعاني الشيء نفسه. اذ تنظر مينا لوالدتها التي تشيع بنظرها الى الارض بأسى شديد على وجهها والدموع تملأ عينيها ببطء.

تنهدت وفاء، ثم قالت: «عندما هُزمت طالبان في المرة الأولى، اعتقدت أنهم لن يعودوا أبدا. كان ذلك بمثابة عالم جديد».

بعد سقوط نظام طالبان الأول، في العام 2001 اندفعت وفاء وزوجها محمد إبراهيم محمدي المزارع، لبذل كل ما بوسعهما لضمان حصول اولادهم، وهم ابنتان وثلاثة ابناء، على التعليم. وما زال هذا واقعا. فبعد وصول طالبان للسلطة، استأجرت وفاء غرفة في مدينة باميان لبناتها وسجلتهن في دورات خاصة للغة الإنكليزية، التي تكلف 500 أفغاني (حوالي 6 دولارات) شهريا. مبينة إن دروس الكمبيوتر كانت باهظة الثمن.

ولأجل تحمل هذه النفقات تستيقظ وفاء صباحا وتنطلق في الطريق بمدة نصف ساعة من منطقة (نوى فولادي) حتى تصل إلى طريق تستقل منه سيارة أجرة في رحلة تستغرق ساعة إلى متجر الحرف اليدوية في السوق المركزية وسط المدينة، وتعمل طوال النهار قبل العودة إلى المنزل، ومع حلول وقت متأخر من المساء تقوم باعداد الطعام على موقد من الحطب، لاعداد الفطائر وغسل الملابس ضمن جدول معد سلفا بين افراد العائلة.

في الماضي، كان المتجر يوفر لها 25 ألف أفغاني شهريا، أي ما يعادل 300 دولار. اما في هذه الأيام فهي تحصل على أقل من ثلث ذلك المبلغ، ويكلفها تغطية تعليم أطفالها ربع ما تكسبه على الأقل. وتضيف وفاء انها يجب أن تعمل لاجل عائلتها، علما ان زوجها كان مسؤولا عن نفقات الأسرة لكن دخلها كان يغطي تعليم أطفالهم.


حلول وسط

عوضا عن انتظار تغيير موقف الحكومة المركزية بشأن التعليم الثانوي للفتيات، اختارت المعلمة والناشطة طيبة رحيم البحث عن حلول وسط مع مسؤولي طالبان المحليين. خاصة في أجزاء من البلاد حيث لا يتمعتون بدعم قوي لتفسيرهم المتشدد للشريعة. وتقود رحيم منظمة «ناي قالا»، التي تركز على التعليم وتقوم ببناء المدارس وتدريب المعلمين في المناطق الريفية، ومعظمهم في المقاطعات الوسطى والشمالية.

في ايار الماضي، افتتحت المنظمة أحدث مشاريعها، وهي مدرسة من ستة فصول دراسية تخدم الطلاب الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و16 سنة، بما في ذلك الفتيات. وقالت رحيم إنه انتصار جاء بعد أن أقنعت مسؤولي طالبان بالفوائد التي يمكن أن يجلبها تعليم الفتيات للقرى، مثل المساعدة في التخفيف من حدة الفقر وتقديم الخدمات للنساء والأطفال.

وتبين رحيم: «بصفتي امرأة ومن الهزارة، من المفترض أننا على خلاف مع  طالبان، لكن لا يمكنني أن أغمض عيني عن  كونهم الواقع الجديد للبلاد». وتكمل لقد قاتلنا وأهدرنا الكثير من الوقت بالفعل، وعلينا أن نبني رؤية مشتركة، اذ يوجد فقر مدقع هنا، والناس ليس لديهم الرفاهية أو الوقت أو الاختيار في ما يتعلق بمن يجب أن يذهب إلى المدرسة».

عندما ظهر نتائج «اختبار الكانكور» ظهرت مينا إبراهيمي بأعلى درجة حققتها فتاة في مدرستها التي لا تزال مغلقة في نوى فولادي. لكن على عكس العامين الماضيين، عندما حصلت الطالبات على أعلى الدرجات في جميع أنحاء أفغانستان، لم تصل أي فتاة إلى المراكز العشرة الأولى على مستوى البلاد هذا العام، حسبما ذكرت وسائل الإعلام المحلية. وتم قبول مينا في جامعة كابول الطبية لتخصص الصحة العامة. ووفاء لا تعرف كيف ستدفع مقابل ذلك، لكن انباء وقف التعليم الجامعي للفتيات مؤخرا جعلها غاضبة للغاية. مشيرة إلى أنه عندما حكمت طالبان للمرة الأولى، كان الناس أميين ولا يعرفون حقوقهم، اما اليوم فالامر مختلف.


عن صحيفة لوس انجلس تايمز