في الموصل.. نظرة جديدة لحياة العيد

بانوراما 2023/01/15
...

  رشا العقيدي

  ترجمة: ليندا أدور


في العام 2008، أعلن العراق أن يوم عيد ميلاد السيد المسيح في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول، عطلة رسمية، وهو قرار عدّه البعض متأخرا، لا سيما أن العراق موطن لأحد أقدم المجتمعات المسيحية في العالم. وقد لعبت دورا رئيسا في تشكيل التنوع الثري للبلاد، وعانت بعض من أبشع أشكال الاضطهاد على يد مختلف الحكام والمتنفذين الذين تعاقبوا عليه.

فسكان محافظة نينوى،  بضمنها مدينة الموصل، مسقط رأسي (بلسان كاتبة المقال)، غالبا ما كان الشعور السائد لديهم في يوم عيد الميلاد هو شعور «بالعيد أو العطلة»، فلا امتحانات تحدد فيه، مع شغور حصة أو حصتين في الدوام المدرسي لغياب طلاب أو معلمين من الديانة المسيحية. ما يبعث المزيد من الفرح لقلب الطالب أكثر من يوم مدرسي صاخب. حتى كنائس الموصل العديدة، اذ لكل أربعة أحياء هناك كنيسة، تتزين بالأضواء، فيملأ الشعور بالفرح والاحتفال الأجواء والهواء.

كانت نينوى هي أول الأماكن التي وصلتها المسيحية في العراق، والتي أصبحت عاصمة الإمبراطورية الآشورية خلال القرن الأول، اذ قام مار توما الرسول برحلته شرقا مع تلاميذه، من بلاد الشام الى بلاد ما بين النهرين. تحول سكان نينوى من الناطقين بالآرامية الى المسيحية تدريجيا وتعايشوا مع الديانات القديمة للآشوريين والزرادشتيين، حتى سادت المسيحية الامبراطورية الآشورية بالكامل، وكان لهذا التحول الجماعي دور رئيس في الحفاظ على الهوية الإثنية لسكان العراق من الآشوريين، الذين يزعمون بأنهم ينحدرون من بلاد آشور القديمة. 


ارتباط بالأرض

كان لعزل منطقة سهل نينوى، شمالي العراق، دور كبير في الحفاظ على الاختلاف الإثني والديني واللغوي للآشوريين عن بقية المجتمعات الأخرى في العراق، لكنه لم يبعدهم عن الغارات والهجمات المتكررة التي كان يشنها أتباع الدين الجديد، وهو الإسلام في القرن الثامن. كان هدف الحملات العسكرية في نينوى هو لإخضاع مسيحييها أو قبول الإسلام، وقد استمرت تلك الحملات من العصر العباسي الى عهد السلاجقة والعثمانيين، وفي القرن العشرين، كانت «مذبحة سَمّيل»  العام 1933، هي آخر حملة منظمة.

لهذا نجد أن السبب وراء معاناة مسيحيي العراق معقدة، فقد أصبح الآشوريون، سكان نينوى الأصليون والذين تعود جذورهم فيها الى أكثر من ستة آلاف عام، أحد أقدم المجتمعات المسيحية الناجية من اضطهاد متنوع طيلة قرون، الأمر الذي عزز من اندماج الهوية الأصلية والتضحية، من أجل الكنيسة التي تقودها مجتمعاتهم في الشرق الأوسط، وكان ارتباطهم بالأرض حقيقيا، ولم تفلح أي حملة في اقتلاع جذور الآشوريين من نينوى. وجاءت احتفالات عيد الميلاد لتعكس هذا، وتشهد على ذلك الرقصة الدائرية الآشورية التأريخية، بالملابس الفريدة، اذ تعكس أشكال الصلبان المضافة الى الأوشحة والقبعات اندماج الانتماء العرقي بالإيمان.    

عاشت منطقة سهل نينوى للفترة الممتدة من أربعينيات الى منتصف تسعينيات القرن الماضي في سلام، ففي مدينة الموصل، تبنى المسيحيون من العرب بعضاً من العادات والتقاليد المحلية، لكن ذلك لم يغير من مكانتهم كأقلية أصلية في المنطقة، بل إن بعض هذه السلوكيات خلقت إختلافات بين مسيحيي نينوى أنفسهم. كان للموصل، تلك المدينة الحضرية التي تقع على جانبي نهر دجلة الأيسر والأيمن، رؤية طبقية لسكان ريفها على أنهم غرباء، يساهمون بجزء صغير في حداثة وأسلوب الحياة الحضرية للمدينة، وقد عززت هذه الرؤية الانقسام الصعب والقاسي بين المناطق الحضرية والريفية فيها. لم يكن مسيحيو الموصل ببعيدين عن ذلك، اذ غالبا ما كانوا يفضلون الإنغلاق على أنفسهم، ويقيدون الاتصال مع مسيحيي السهل، فكان الود قائما بينهم، لكنهم بالكاد يختلطون ببعضهم، حتى الزواج بينهم كان نادر الحدوث، وإن حصل فيقابل بالسخط. انسحب ذلك الاختلاف على أعياد الميلاد أيضا، اذ يحتفل بها بشكل مختلف، ففي الموصل، كان شائعا إقامة التجمعات العائلية مع موائد غداء وعشاء كبيرة بصحبة الأصدقاء، وفي المساء، كانت تقام عروض موسيقية صغيرة لأشهر العازفين خاصة بالمناسبة في الفنادق والصالات الفنية. أما قرى ريف نينوى، فكانت الاحتفالات تستمر لأيام وبصخب أكبر، فبالإضافة للتجمعات العائلية، كان يتم حجز المسارح والصالات الكبرى قبل أسابيع، لتقام فيها الرقصات الآشورية، وكان طابع الإحتفالات أكثر غرابة ومبالغا فيه وربما أكثر تسلية. 


خيارات داعش الأربعة

خلال فترة الحصار على العراق، بدأت هجرة المسيحيين بأعداد صغيرة الى الغرب، فكانت الصعوبات الاقتصادية، وليس الاضطهاد، هي الدافع الرئيس وراء بحثهم عن حياة أفضل.  بعدها، بدأت التجمعات العائلية تصغر شيئا فشيئا، لتتحول الى «منحى» استمر وبتصاعد بعد الاجتياح الأميركي للعراق والإطاحة بنظام صدام.

لم تنجح قرون من الاضطهاد في محو القرى التأريخية لعصور المسيحية الأولى في العراق، لكن يبقى خطر التطرف يلوح في الأفق ويقترب أكثر، ففي شهر حزيران من العام 2014، أحكمت عصابات داعش الإرهابية قبضتها على مدينة الموصل، ووضعوا المسيحيين أمام أربعة خيارات: إما اعتناق الإسلام والاحتفاظ بأموالهم وأصولهم، أو البقاء على ديانتهم مع دفع ضريبة (جزية)  شهرية أو سنوية، أو مغادرة المدينة دون أخذ أي من الأصول التي يملكون أو هويات أو وثائق، والخيار الأخير: الإعدام. فاختار القلة القليلة منهم فقط البقاء ودفع «الجزية»، بينما فضل الغالبية منهم مغادرة أرض الأجداد. 

كانت بلدة بغديدا (أو قرقوش)، الواقعة جنوب شرق الموصل، أولى القرى التي سقطت بأيدي عصابات داعش الإرهابية، تلتها بلدتا برطلة وتل كيبي، بينما نجت بلدة ألقوش، ربما يعود السبب لقربها من المناطق الكردية، حيث تمكنت قوات التحالف الدولي من إيقاف تقدم داعش أكثر. وتعرضت منازل المسيحيين للنهب بالكامل، وكذلك الكنائس، كما تعرضت قطع أثرية ومخطوطات نادرة يعود تأريخها لآلاف السنين الى التدمير أو البيع بالسوق السوداء. 

عودة للبناء

بعد اندحار داعش سنة 2017، عاد آلاف المسيحيين العراقيين الى منازلهم وقراهم بعد أن وجدوا لهم ملاذا مؤقتا في الإقليم ومخيمات النزوح وقرى أخرى في سهل نينوى. فقد عاد الكثير الى بيوتهم وكنائسهم المدمرة بالكامل، فأعادوا بناء ما استطاعوا إعادة بنائه بمساعدة حكومية ومنظمات إغاثة دولية وصناديق إغاثة مسيحية. شهد ذلك العام، احتفالات مذهلة بأعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة، اذ لم يقتصر الأمر على عودة أهالي بغديدا وألقوش الى بلداتهم، بل تم نصب شجرة عيد ميلاد ضخمة وسط الموصل بعد أكثر من 20 عاما من غياب هذا المشهد. 

اليوم، صار منظر العوائل وهي تلتقط الصور مع رجال يرتدون زي بابانويل، وأشجار عيد الميلاد ومنازل مزينة بديكورات العيد، أمرا شائعا ومألوفا، ورغم العقبات الأمنية والسياسية التي يواجهها العائدون الى قراهم، نتيجة للاستيلاء على أراضيهم أو التغيير الديموغرافي الذي تشهده مناطقهم، تبقى احتفالات نينوى بأعياد الميلاد تمثل تذكيرا بالمصاعب التي عاناها مسيحيوها منذ نحو ألفي عام، وتعد تأكيدا على أن «آشور» لا تزال تنبض بالحياة.


*مجلة نيولاينز الأميركية