فيضانات نيجيريا تسحق حياة الكثيرين

بانوراما 2023/01/16
...

 تشيندو اسادو

 ترجمة: بهاء سلمان

عندما وصلت مياه الفيضان إلى كوخ عائشة علي المصنوع من حصائر منسوجة من القش وليف النخيل المحلي، حزمت ما تتمكن من أغراضها وانطلقت سيراً على الأقدام بأولادها الثمانية الصغار، تعلم عائشة (عمرها أربعون عاماً) أنها لربما وأسرتها لن يروا منزلهم مرة أخرى إطلاقاً، ففي هذه القرية النائية ضمن ولاية يوبي، الواقعة شمال شرقي نيجيريا، والمعروفة بأراضيها الزراعية الواسعة، ضعف البنية التحتية معناه فيضانات سنوية لمياه زائدة تتدفق من النهر، ولا يكترث غالبية القرويين كثيراً لإشارات التحذير مع ارتفاع المياه، متعاملين مع الفيضانات كحالة مسلم بها في حياتهم، لكن في هذا الموسم، غمرت الأمطار الهائلة نيجيريا والدول المجاورة بفيضانات لم تشهدها المنطقة منذ عقد على الأقل، ويعود السبب الأكبر فيها إلى التغيّر المناخي. عرفت عائشة وزوجها أن الأمر مختلف هذه المرة، فالماء وصل إلى منزلهما وبدأ بالارتفاع داخل الكوخ. فسارت وأولادها عبر طريق ضيّق مشبع بالماء. ترافقهم عربة شقيقها، المسحوبة بواسطة الأبقار، وركب بعض الأطفال فيها، لأن العربة لا تسع الجميع.

طلبت الأم من خمسة من أولادها الصعود إلى العربة، لتكمل هي والباقين المسيرة مشيا على الأقدام. صعد الأطفال الخمسة، وهم بأعمار تراوحت بين الخامسة والتاسعة، متبادلين الأحاديث مع شعورهم بالإثارة، لأن ركوب العربة يعد من النزهات النادرة، وكانوا بعمر صغير جدا لا يدركون معه مخاطر ارتفاع المياه من حولهم. طمأنتهم الأم بأنهم سيجتمعون لاحقا، ليودع الواحد الآخر، ولتواصل الأم سيرها مصطحبة أطفالها الثلاثة الباقين، وهم بأعمار 15 وست وثلاث سنوات. عبرتهم العربة، لتختفي عن الأنظار في نهاية المطاف. 


غضب الطبيعة

صارت الفيضانات الأكثر فتكا منذ نحو عشر سنوات، بحسب السلطات؛ فقد لقي أكثر من ستمئة شخص حتفهم، وتعرّضت آلاف المنازل للدمار، وكذلك الأراضي الزراعية. وترك نحو مليون وثلاثمئة ألف فرد منازلهم، لتنقلب حياتهم ومعيشتهم رأسا على عقب.

وظهرت الأزمة البيئية بمعية الأزمة الإنسانية المتمثلة بالصراع الممتد منذ عقد من الزمن بتمرّد مسلح لجماعات إرهابية متطرفة ضد الحكومة. وتعد الهجمات العنيفة أمرا معتادا، وخصوصا شمالي البلاد، حيث يدعم تنظيم «داعش» الإرهابي المتعاونين حاليا مع الجماعات المسلحة لرعاة ماشية سابقين انخرطوا في القتال ضد تجمّعات سكانية من أجل حيازة المياه والأرض. 

ويرجع المسؤولون أسباب حصول الفيضانات لإطلاقات مبالغ فيها من سد لاغدو في الكاميرون، علاوة على هطول الأمطار بنسب مرتفعة جدا. كان الأثر على القرى المتضررة بالفيضانات هائلا. فالعوائل هنا لديها مسبقا معاناة، ويتلقون طعاما قليلا كمواد إغاثة من الحكومة، أما الكهرباء والماء الصالح للشرب والطرق الصالحة للسير فهي بمثابة رفاهية خيالية لا وجود لها.

وتشير تقارير السلطات إلى أنها توزع مواد إغاثية بين العوائل المتضررة، وحاولت إخلاء بعض من مخيّمات النازحين، لكن لا توجد مثل هذه المخيّمات أو الجهود في القرى المنكوبة، التي تضم الآلاف من السكان. الوصول إلى المخيمات صعب جدا، وهي تبعد عنهم بعشرات الكيلومترات. 

قاد «بوبا موبي»، 25 عاما، عربته بحذر شديد. كان الماء قد وصل إلى ارتفاع يوازي خصر الإنسان حينما غادر الأطفال قريتهم، ويزداد ارتفاعا. كانت بعض أخاديد المنخفضات في الطريق تزيد من عمق المياه في بعض الجيوب، وبعد نحو أربعة كيلومترات من صعود الأطفال العربة، وصلت الأبقار إلى إخدود أعمق، لتتعثر وتنقلب رأسا على عقب، مسقطة الأطفال على الطريق المغمور بمياه الفيضان. كافح الصغار لإبقاء رؤوسهم فوق الماء، وحاول موبي  انقاذ الأقرب إليه، لينتشل إحدى بنات أخته ويلقيها في مكان أقل عمقا. وأسرع عائدا لانتشال الآخرين، لكنهم تلاشوا تحت المياه، وبحث بجنون لكن صخب مياه الفيضان لم تظهر أثرا لهم.

ومع ذلك، هرع للبحث عن قرويين آخرين لمعاونته في البحث عن الأطفال الأربعة، لكن الأوان كان قد فات. يقول موبي: «وجدنا جثثهم، منتفخة بالمياه». في النهاية، وصلت الأم وبقية أطفالها. فركضت الطفلة الناجية والتصقت بوالدتها، لتجد الأم نفسها وسط صدمة، لينهار الجميع وسط بكاء شديد. ولم يدر بمخيّلتها مطلقا أن الأطفال المستقلين للعربة سيكونون في خطر أشد من الماشين على الطريق، لكنها عدّتها مشيئة إلهية. «لم يكن هناك شيء بوسعي فعله،» تقول الأم المنكوبة. نقل القرويون جثث الأطفال الأربعة إلى القرية. خلال الأسابيع التالية لوفاتهم، لم تستطع الأم من زيارة قبور أطفالها. «أنا أحاول تذكّرهم، وخصوصا أثناء الليل، لكن لم يتبق الشيء الكثير منهم،» مع اختفاء ملابسهم وحاجياتهم بمياه الفيضان.


انتقال اجباري

تحطّم الكوخ المتداعي الذي تسكنه العائلة، بالتالي فقدوا مكان المعيشة في القرية، لينتقلوا إلى قرية أخرى تبعد 11 كيلومترا. وشأنهم شأن العديد من العائلات التي انتشرت عبر الأراضي الجديدة بحثا عن ظروف معيشية أفضل، لا تملك العائلة أية صلة بهذا المكان، فهي ببساطة منطقة يمكنهم إيجاد غرفة تأويهم للبدء من جديد، ولديهم أمل بالعودة يوما ما إلى قريتهم الأم، لكنهم مهتمون حاليا بالبقاء على قيد الحياة.

يعاني الزوج من ارتفاع بضغط الدم، ولا يمكنه الوقوف لمدة طويلة، ولديه ارتعاش بجسمه؛ وهو غير قادر على العمل، وتعتقد زوجته بتدهور صحته بعد وفاة الأطفال. الشيء الآخر الذي تغيّر أيضا وإلى الأبد هو حياة أطفالهما الستة الناجين، فقد كانت الطفلة الناجية من حادثة انقلاب العربة وشقيقتها التوأم تمثلان حياة المنزل، ومع غيابها، تقضي الناجية أيامها بمزاج كئيب، بعدم رغبة في اللعب، مع ليل صعب تحاول فيه النوم لوحدها. ولدى العائلة ثلاثة أولاد كبار، لا يزالون يقيمون في القرية الأم، لكنهم يقضون نهارهم في العمل بالحقول، مقابل أجر يومي زهيد.

الكوخ الجديد للعائلة يخلو من الأثاث تقريبا، ويلعب الأطفال حفاة القدمين على تراب خشن. ويحاول الأطفال جمع الثمار من الحقول، حيث يعملون كي تتمكن العائلة من العيش. 


وكالة اسيوشيتد برس الأميركية