كأس الخليج 25 تعيد توزيع الأدوار السياسيَّة

ريبورتاج 2023/01/18
...

  البصرة: صفاء ذياب

المفاجآت التي فجّرها أهالي مدينة البصرة قبل أيام من بطولة كأس الخليج العربي وما زالت حتى الآن غريبة على مجتمعاتنا العربية، فهذه المدينة التي كانت تمثل واجهة خليجية طوال خمسينيات وستينيات وصولا إلى تسعينيات القرن الماضي، انعزلت منذ حرب الخليج الثانية، فبدأت بالذبول وكأنها مدينة تعيش على أنفاس الضيوف بمختلف جنسياتهم، فلم تكن مدينة البصرة مجرّد ميناء على الخليج، بل كانت متنفساً لأكثر من أربعين عاماً للخليجيين، الذين كانوا متلهفين للعودة لهذه المدينة، لا سيما من درس في كلياتها في السبعينيات والثمانينيات، لتكون بطولة كأس الخليج العربي بوابة فتحت على مصراعيها للضيوف جميعاً، ليس في فنادق البصرة أو مطاعمها بل في بيوت البصريين ومزارعهم، فكيف يمكن لمواطنين بعيدين عن السياسة وإشكالاتها أن يغيّروا وجهة نظر دول أخرى تجاه بلدهم؟

وربّما يمكننا أن نتساءل بشكل آخر: هل شكّلت بطولة الخليج في البصرة قوةً عراقية ناعمة، لالتفات الأشقاء العرب للعراق، وعودته عربياً، بعيداً عن السياسة وما أنتجته من حروب؟


 كسر الإطار

يرى الشاعر البحريني أحمد العجمي أنّه برزت أمام العراق في تنظيم بطولة كأس الخليج ونجاحها عقبتان صلبتان. تتعلّق الأولى في أنَّ البطولة أتت مباشرة بعد كأس العالم في قطر، التي حتّمت عليه التفكير في كيفية خلق الاهتمام ببطولة إقليمية لجماهير شاهدت كأس العالم وأشبعت روحها بأجوائها. كما أنَّ عقلية المقارنة ستكون حاضرة بقوة بين الدورتين، لا سيما في احتفال الافتتاح والتنظيم والحضور الجماهيري وفي طقوس المحبة.

أما العقبة الأصعب فتمثّلت في كيفية تمكّن العراق من كسر الإطار الذي حُشرت فيه صورته المتعلّقة بقدراته وإمكاناته ومدى ملاءمة البصرة لمهرجان رياضي جماهيري إقليمي. وتقديم صورة مغايرة خارج التنميط الذي حُجز فيه العراق وراء الحوائط الإعلامية.

ومن اللحظة الأولى لانطلاق البطولة تحطّمت هذه العقبات وبرزت صورته الحضارية التي جعلت كلّ من تابع افتتاح وفعاليات الدورة من بعيد وكل من حضر يرى المجتمع العراقي على حقيقته العربية والحضارية، ويلمس الأمان والاحترام وطاقة المحبة التي قابل بها أشقاءه من دول الخليج العربية، التي فتح بها فضاءً ناعماً للتواصل وللتفاعل معهم مستقبلاً.

 اكتشاف العراق

ويشير الروائي الكويتي خالد النصر الله إلى أنَّ الرياضة والفنون والأنشطة الإنسانية العامة رافد من روافد القوى التي تُقدم البلاد بشكل إيجابي، سواء تميزت بها أو احتضنتها، ومسوّق جيّد يؤثّر في اقتصاد البلد ويُقدّمه كوجهة للسياحة إذا أحسن استغلالها، وليس ببعيد عنّا بطولة كأس العالم في قطر، التي نجح تنظيمها في تقديم الإرث العربي وتقاليده، وأسهم في تغيير وجهة نظر الغرب حيال العرب وقدرتهم على تنظيم الفعاليات الكبرى، وكذلك تصحيح أفكارهم حول سلوك الإنسان العربي، وكيف هو متحضّر ومسالم وطيب المعشر، الذي شوهّه الإعلام على مدى حقب متعاقبة.

ويضيف النصر الله: العراق بمحافظاته كلّها، بحاجة لفعاليات شعبية، تلفت أنظار العرب مرةً أخرى نحوها، كوجهة للزيارة، ولفتح آفاق التواصل من جديد، كأس الخليج كانت أشبه بمحاولة اكتشاف العراق مرة أخرى، وقد حقّقت جزءاً بسيطاً في هذا الجانب، وكذلك كانت متنفساً للعراقيين وأصحاب المحال المختلفة، وأدارت عجلة الاقتصاد التي أُنهكت وتعطّلت منذ زمن. نحن بحاجة لأن ننفتح مجدّداً على بعض، وتلتقي الشعوب بعيداً عن الصورة المزيّفة، الإعلامية أو الانطباعية، التي مدّت الشعوب بالحقد والبغض، ولنبدأ بالتعارف من جديد.


 طائر الفينيق

أما الكاتب والإعلامي العماني سليمان المعمري فيبيّن أنّه لو لم يكن من نجاح لهذه الاستضافة للبصرة لكأس الخليج سوى أنَّها أعادت إلى ذاكرتنا الوجه الآخر للعراق، لكفاها. نعم هذا الوجه الذي كدنا ننساه في خضمّ الحروب والمشكلات السياسية التي لم تبخل الفضائيات العربية بإدخالها إلى بيوتنا يومياً، ورغماً عنّا، حتى ظنَّ من لا يعرف بلاد الرافدين جيداً أنَّ هذا فقط هو العراق. للمرة الأولى منذ سنين طويلة أشعر أنَّ العراق عاد إلى حضن الأمة العربية بوجهه المشرق الجميل، وجه الحضارة والثقافة والفن الذي يذكّرنا أنَّ هذا البلد هو مهد اللغات، ومنبت الأنبياء والحضارات، ومهوى أفئدة الشعراء والأدباء والعلماء، وأنَّه مهما تعثّر يقوم في النهاية كطائر الفينيق منتفضاً من رماده. أظن أنَّ هذه هي أهم فائدة لبطولة رياضية كهذه. أن تجعل المشككين يتأكّدون أنَّ الحصان نهض أخيراً من كبوته، وأنَّه غير مكتفٍ بالنهوض فقط، وإنما عازم كذلك على الفوز في السباق. وهو مؤهل لذلك بامتياز. فهو البلد الذي أنجب إضافة إلى سياسييه بشجرتهم العالية التي أخفت الغابة رياضيين كحسين سعيد وأحمد راضي وعدنان درجال، ومطربين كناظم الغزالي وحضيري أبوعزيز وعفيفة اسكندر، وشعراء بقامة البياتي وبلند الحيدري وسعدي يوسف، وروائيين بحجم فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان، ومفكرين بقامة علي الوردي، ومعماريين كزها حديد ومحمد مكية، ومئات الأسماء الأخرى من التخصصات كلّها التي تشكّل القوة الناعمة لهذا البلد الجميل.

 

واهبو الفرح

من جهته، يوضح الأكاديمي والرياضي السابق، الذي كان كابتن فريق النجف في سبعينيات القرن الماضي، الدكتور باقر الكرباسي، أنّه منذ فجر التاريخ الإنساني كان للرياضة أثر مهم في حياة البشر، ليس فقط من جهة رفع لياقتهم البدنية أو تعليمهم النظام والانضباط والالتزام في سلوكهم أو الارتقاء بمشاعرهم الإنسانية إلى درجة النضج، بل أيضاً وبشكل لا يقل أهمية على الإطلاق في ما يختص بالإسهام في تحقيق تفاهم وتعارف بين الشعوب، والرياضة حالة حضارية يتوجّه الناس إليها لسببين: الأول فطري غريزي والثاني خارجي يكتسبه الإنسان من الآخرين، فيكون توجههم إلى الرياضة هواية وممارسة واحترافاً، فيرى الإنسان في الرياضة حاجته للبناء والتخصص والعلم والسعادة والثقافة، وليس جديداً على عراقنا الحبيب تنظيم البطولات الرياضية، ولكنَّ الجديد في أنَّ بصرتنا الفيحاء تصدّرت ونظّمت بطولة شهد لها الداني والقاصي في الافتتاح المهيب والرائع وكرم أهلها المعهود وطيبتهم التي فاقت التصورات، ما جعل الإخوة في الخليج العربي يقفون مبهورين لما قدّمه أهل البصرة لهم، نعم هكذا نحن في العراق أخوتنا لا نحيد عنها بالرغم مما مرَّ علينا من ويلات وحروب، ولكنَّنا نبحث عن الفرح ونعطيه للآخرين، وما تدفق الجماهير الرياضية على حضور خليجي 25 إلا دليل على محبتنا لأشقائنا العرب عامة والخليج العربي خاصة، وهو دليل أيضاً بأنَّ العراق ما زال من ضمن المنظومة العربية و جزءاً مهماً منها.


 إرادة شعبيَّة

ولا يريد التشكيلي خالد خضير الصالحي أن يحدّ ما حدث من قوة ناعمة فقط لالتفاف الأشقاء العرب لعودة العراق إلى الصف العربي، بل لالتفاف العراقيين لعودة طوعية لبلدهم إلى الصف العربي، وشكّل ما يشبه الاستفتاء الصامت والطوعي من قبل الشعب العراقي للعودة إلى الصف العربي، ولتحديد خياراته الحياتية والاجتماعية بشكل حر ومن دون قبول ما تفرضه الإرادات السياسية الموجّهة من الجهات السياسية الفاعلة في المشهد العراقي..

ويعتقد الصالحي أنَّ بطولة الخليج سترسل رسالة قوية إلى الوسط العربي باتباع خطوات جادة لاتخاذ سياسات فعّالة باتجاه المساهمة الفاعلة في القضية العراقية. إنَّ حضور هذا العدد الضخم للمتفرجين العراقيين والعرب يشكّل تحولاً ثقافياً مهماً في المزاج الشعبي الثقافي العراقي، وستكون له تأثيرات ثقافية مستقبلية كبيرة. إنه حدث ثقافي كبير يصب في حاجة العراق إلى خطوة بداية لإعادة علاقاته الثقافية قبل الدبلوماسية مع محيطه العربي، لا سيما دول مجلس التعاون الخليجي عبر العلاقات الاجتماعية، قبل العلاقات الرسمية، وتُعدُّ بطولة خليجي 25 ونجاح إقامتها في العراق الخطوة الأهم التي ستسمح للعراقيين بنقل علاقاتهم مع دول مجلس التعاون الخليجي، ومحيطه العربي من الجانب المؤتمراتي الرسمي إلى تأسيس علاقات اجتماعية مباشرة لا تحتاج إلى جهود سياسية ودبلوماسية لإدامتها وتشكيلها وتعمل بشكل مباشر كأداة لمنع التطرّف الطائفي الذي قد ينتشر في المنطقة.

مضيفاً: لقد غيّرت إقامة خليجي 25 النظرة العامة العربية والدولية إلى العراق بعد نجاح البطولة، وحدوث تغير كبير في متجهات وسائل الإعلام الدولية والإقليمية التي تتحدّث عن العراق وأحداثه، وهو اعتراف من دول الخليج بالنجاح الحالي الذي حقّقه العراقي لتجاوز محنة ما بعد الاحتلال الأميركي.


استقطاب إقليمي

وينهي الشاعر والصحفي قاسم السنجري حديثنا قائلاً : إنَّ إقامة بطولة خليجي 25 في البصرة العراقية، انبثقت عن رغبة الأوساط الرياضية بكسر الحصار عن الملاعب العراقية والمنع الدولي من قبل "فيفا" في إقامة أيّة مباراة دولية على الملاعب العراقية الذي تراجع من المنع الكلي إلى الجزئي ويشمل ملاعب العاصمة بغداد.

اتسعت هذه الرغبة لتعمَّ الجماهير الرياضية وغيرها للتخلّص من الشرنقة التي وضعت البلاد داخلها، ومنعتها من التواصل مع محيطها، فإذا كانت "القوة الناعمة" تختص بمنظمات ومؤسسات حكومية، فإنَّ ما يحدث الآن في البصرة تجاوز القوة الناعمة، فهي "قوة شعبية" تجاوزت الحكومة والقوى السياسية المتحكمة بها والمرتبطة بأجندات لا تكتفي بالابتعاد عن المحيط العربي، بل تضعه في مواجهة معه. إنَّ ما يحدث هو تحرّك شعبي وهذا يفسّر حجم الفجوة بين رغبات الأحزاب الحاكمة وما يريده العراقيون.

هذه اللهفة الشعبية قد تكون محاولة لتجسير العلاقة بين نظرائهم الخليجيين، ولكنّها تبقى في إطارها الشعبي بعيداً عن أيّ توجه حكومي يعزّز الثقة مع حكومات الخليج ويمنحها تطمينات قد لا تستطيع الحكومة العراقية توفيرها في ظل الاستقطاب الإقليمي وسياسة المحاور.