نداءات لصباحات بعيدة.. سيرة ذاكرة

منصة 2023/01/18
...

  هويدا محمد مصطفى


تمزج مجموعة طلال الغوار السيرية (نداء لصباحات بعيدة) الصادرة عن دار الينابيع بين الحب والروح من جهة وبين الذكريات العميقة من جهة أخرى صانعة فضاء صوفيا لمشاعر عدة. 

تعنى هذه المجموعة بالتحول المكاني من خلال التقاط الصور بإيقاع عذب المفردات. 

هذا التشكيل المتفرد والمتماسك المليء بالانفعال العاطفي تبرره وحدات الزمان والمكان والحدث تدعمها رؤية عن العالم الحسي يقدمها الكاتب بسرد شاعري. 

تبتكر الفكرة لنفسها وسائل تعبيرية وتتنوع بحسب معناها مما يجعل طريقة السرد والأحداث مدهشة بعيدة عن الحشو والتشتت فقد وظف الأحداث بأسلوب سلس عذب وكأنه أجزاء من مقطع موسيقي.

لقد أعطى الكاتب إضافات جديدة في تصوير حقبة زمنية عبر قصصه فالمجموعة مليئة بالأحداث المتنوعة التي تضم إسقاطات رمزية على الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي يعيشه واختيار شخصيات مناسبة من خلال الوصف الدقيق مع تحريك شخوصه ببراعة ومرونة فائقة مما أضفى الحيوية والصورة الجلية الفنية.

 في مقطع بعنوان (مريم) يقول الكاتب: كلما تذكرت أيام طفولتي في المدرسة بزغ في رأسي وجه مريم، ليشعل الفتنة في الكلمات، وأستحضر تلك الأيام بلحظات تفصلني عنها عشرات السنين، نجد هنا اقتناصا للحظة الزمنية بلغة شاعرية أنيقة يمزج فيها الواقع وتأملات الكون، هي وحدها مريم نبض القلب، وفي مقطع بعنوان (الأيام جراح في الطرقات)، يقول الكاتب: الحياة تسير في الشوارع، لها وجوهها المتعددة لكنها تبدو لك وكأنها بوجه واحد، الكل يسير في الحشد لكن فيه من هو منسجم مع نفسه وأحلامه ويعد حياته بفرح ، وآخر من يخفي بعضا من أحلامه (إنها أحلام سرمدية) وثمة ثالث يتمظهر بالحلم لكن لا أحلام له ،هي لغة تكاد تكون خاصة بالكاتب ، لغة تنطلق من الواقع ومن وعي الكاتب بأدواته الفنية والقدرة على الانغماس في العالم النفسي معتمدا على الرؤية البصرية التي تجسد المشهد وهو ما أحدث مفاجأة جميلة للقارئ جعلته يقف للحظة ثم يطلق خياله للتأويل وهذا ما نراه في (الإكسير المغشوش) ليقول: ما زالت الأيام مفخخة بالمفاجآت، والحياة كما هي في البدايات، يقودها الخوف والرعب، برغم مرور سنوات على الاحتلال ، فما إن تنتقل من شارع إلى آخر حتى ترى حاجزا أمنيا لا تعرف إن كان حكوميا أم أنه تابع لأحد الأطراف السياسية وإن كان بينهما وشائج قربى. 

تظل أمام فيض من مشاعر مختلفة ناتج عن هذا التنوع الصوتي المغامر إلى الذات الحاضرة التي توجه المعنى ثم تنال صورا عاصفة تطاول المستحيل وتحيل الفرح المباغت إلى حزن يكتسح ما قبله ..الكاتب عمد إلى التكثيف برغم بساطة المفردات واستطاع أن يهز الأعماق بحروفه المؤثرة والمكتملة البناء من حيث الفكرة والرسالة المراد تمريرها ومن جهة أخرى بدت المعاناة والظلم والسجن والحب للوطن في آن واحد حين كتب (أحببتك فعرفتك سجنا ومنفى) وهو الذي وقع في قبضة السياسة ليجد نفسه بين جدران الزنزانة بلا ساعة بلا أحلام بلا ضوء ينتشله من عتمة الروح وألم الظلم فيقول: أتأبط العتمة وأسافر بعيدا ولا أدري أين جهتي وهي تقرأ لي قصائدها بلا كلمات حفرت حياتي على جدران الزنازين يوما فيوما ، وأنا أقف أمام حاضر معتم أم أمام مستقبل لا أتبين منه شيئا. 

ليسافر على أجنحة الطرقات حاملا بين ذراعيه أشواق بغداد إلى دمشق لتكون محطته الأصدقاء وشوارع الياسمين .. وأخيرا أقول إن الكاتب قدم نفسه من خلال (نداء لصباحات بعيدة ) فكانت سيرة ذاتية حافلة بكل ألوان الحياة والواقعية التي ابتكر جماليتها بصياغته الإبداعية والخيالية وترابط الأحداث بذكاء الرؤية اللغوية وأسلوب الطرح المدهش.