يقظان التقي
بعد سلسلة روايات {بلاد الدخان} ، {الحياة في الزمن الضائع} ، {ركام} ، {نوّارة} ،{حياة أخرى} ، {حب في زمن الغفلة} ،{سلطان وبغايا} ، {متعة العمر} ( عن دار الفارابي ) ، ومجوعات قصصية أخرى ( دار الفكر العربي ) ، صدرت للروائية هدى عيد رواية جديدة بعنوان {حبيبتي مريم} ، في مجموعة أصوات متعددة ، وتمثلات إنسانية ، في مساءلة القيم وتفكيك آليات الفساد والهيمنة ، والقمع ، والقتل .
الإهداء إلى شهداء انفجار بيروت، ورؤية الناس من خلال أصواتهم ، في كتابة متوثِّبة تساعد على تفكيك الواقع من أجل تحمّله ، نوعاً من الرغبة بالتمرد والتغيير ، في نسق موفور، ومن تجارب عميقة، وتراكم إنتاجي متطور ومفتوح، وتطلع إلى ما هو متجاوز باستمرار، وخارج “اليوتوبيات” الثابتة، و”البيانات” الجاهزة، و”النظريات” الموجهة. وداخل فضاء الحرية. بحث أدبي يطلع من عصب النص ، من مخزونه عصبه وأسراره.
مسار أدبي نقدي أكاديمي ومصدره التكوين الجامعي الذي اتجهت إليه وكبرت فيه علمياً ومنهجياً ومهنياً ، بيقظة شديدة .
إن الأخبار الأدبية التي تنقلها ليست أشياء أو خواطر عادية ، ولا استشهاداتها الموحية لكتّاب كبار بمجازاتها الموحية ، بل هي أوعية وقوالب تتناغم مع موضوعاتٍ وهواجس ومشاعر وبصفةٍ عامة مع رؤى تكون مفارقة، أو لحظة زمنية هي الحاضر بالذات، تلتقط العابر واللحظة والمفارق، ومصائر متشابكة ورؤية تتحرك وراء هذه المصائر والأحداث ، ويأتي السرد ليرفعها فوق سدة الواقع إلى تخوم التخييل لكي تصل إلى المرثية الضرورية لها. رواية تجمع بين الأنا والمجموع في لحظة، تقاطع الوعي بين الذاكرة والوجدان. ، بين القصة والرواية من حيث البنية والمضمون واللغة.
كتابة فيها التزاماتها ومتطلباتها من حيث البنية والمضمون واللغة والإنجاز.
هدى عيد صوت نسائي متمرد اجتماعياً ، في عناوين صفحاتها مكان للتحرر ، والأدب العالي، وهي تكتب في منهجية تفكيك العنف الكامن في العلاقات الاجتماعية ، ومن خلال خلفيات أصحابها الاجتماعية ، والاقتصادية ، والنفسية، وفي كشوفات الترويض الذي يمارسه الآخرون حيال آخرين .
انتهاكات الحياة اليومية المعاصرة في لبنان تسكن دماغ أنثى متوثِّبة . وحدة الرواية المكانية في شوارع لندن ، والوحدة المعنوية تشييع مريم ،وخواطر سيّارة، بين مطار هيثرو ، محطة بادنغتون ، والشارع اللندني، والوالد الذي يريد أن يفتح قبر زوجته مريم في لبنان في حادثة كان يمكن أن تكون عادية ، فتتحول غرائبية برغبة الإجابة عن سؤال إنكاري “ كيف ماتت الصحافية مريم “ . سردية موت ليست من طبيعة عادية ، أقسى من أيام الحرب الأهلية ، ظلام قوي على الرأس ، تستعيد حكاية المرأة والسمك ، وجبة السمك مع البطاطا ، أرخص وجبة بريطانية مشرعة للجميع.
أيام مشرعة للفقر ، الخيانات الفردية الصغيرة ، قياساً بخيانات كبرى ارتكبت في الحرب الأهلية ، وحوادث أدبية تبدو عادية جداً ، لكن على يد طبقة فوقية . كل هذا الضوء ، كل هذا الخراب ، “خزينة “ من بعد موت مريم ، وعنف ضد العنف ، والمازوخية اللبنانية ، وتقاطع عادي في ثنائية الحياة والموت .
يروي القسم الأول من الرواية حكاية حكيم وحيد مريم . ويروي القسم الثاني غريب جوال ، حبيب مريم ، ويروي القسم الرابع جودي ابنة مريم . تعدّدية في الرواة والأصوات. لكن بزمن روائي واحد، زمن مريم نفسه ، صور ها ، أشيائها . تختلف قيمة الأشياء باختلاف المالكين لها. “ ماذا حصل الآن يا غريب في هذا العالم البغيض العجيب ؟ . “ ما معنى أن تستيقظ ذات يوم ، وتجد نفسك ، وأنت لم تدخل في صلب حياتك بعد ، ولم يعد لك أمل من الحياة ، التي تستمر فيها تلقائياً . ولا علاقة لك بشيء منها ، أهذا هو كل شيء .. “ تستذكر الكاتبة ، نصوصاً خصبة لكبار في كتابه “أفكار صاعدة”، حيث يتآخى بشكل رائع ما يتباعد، أو يتنافر، لكن في بنية سردية متماسكة . في ترجمتها لبيانات في غضبها وعنفها وصراخها القاسي.
لكن الروائية ، كأنما في امتصاصها تلك المناخات، تدفعها بأنفاسها الخاصة، و”بإيقاعها “ الخاص، واعتمالاتها الخاصة. إنها الفضاء المليء بالرموز والإشارات والإيحاءات والأحلام والكوابيس. لحظات متتابعة، متقاطعة، مع أحداث روايتها ، نصوصها ، لغتها . أي من كل ما يسبق تفسيره أو تأطيره أو يلي ذلك. من هنا اللغة النابضة، اللاقطة، ليست الجامحة، أو المتفجرة في التقاط عمق الدراما، يرتكبها من انصرف إلى تزييف الواقع والحاضر، وكل تفاصيل الحياة اللبنانية ، لم يكتفوا بسرقة الحيوات ، بل صاروا يلاحقون بيوت اللبنانيين الأخيرة الصغيرة ، ليسرقوا هدأة الحياة .
رواية ممتعة ، كأن تقول كلاماً بإشارات مكانية أو وقتية.، تنسج مساحة مهمة للتحرر المهم ، في الأدب الروائي المثقف.