الإسكندر الأكبر.. ميلاد العالم الحديث

منصة 2023/01/19
...

 ترجمة: حيّان الغربيّ


متحف جديد يفتتح أبوابه في اليونان ليطرح الأسئلة حول الانعطافة التي شهدها العالم الغابر والإرث الذي خلفته الإمبراطورية المقدونية. وسط الضباب الذي يلّف الريف اليوناني الشماليّ، تستلقي قرية فيرغينا اليوم ما بين التلال المكسوة بالغابات والسهل الساحليّ إلى الغرب من مدينة سالونيك. بيد أن انجيليكي كوتاريدي، التي أمضت عمرها في أعمال التنقيب في المنطقة، تفضّل الاسم القديم للقرية «ايغه»، ومعناه الماعز، وهي حيوانات ما زالت منتشرةً بكثرةٍ في تلك الأرجاء، التي كانت مغمورةً تماماً حتى بدأت الكنوز تنبثق من أراضيها الرطبة منذ زهاء نصف قرن مضى.

وقد تسنّى لكوتاريدي، حين كانت طالبةً في العشرين من عمرها، أن تشهد على لحظةٍ فارقةٍ في عالم الآثار لدى اكتشاف الضريح الملكي في العام 1977. وكان الضريح كاملاً ومتخماً بالقطع الأثرية الذهبية والرسومات الجميلة، وقد أثار معلّم كوتاريدي، مانوليس اندرونيكوس، الكثير من الجدل بادئ الأمر حين سارع إلى الإشارة بأن الضريح يعود إلى الملك فيليب الثاني المقدوني. وإذ أورث اندرونيكوس عباءته لكوتاريدي، أثبتت الأخيرة أنها أهلٌ المسؤولية إذ نجحت مع فريقها في إماطة اللثام عن قصرٍ ملكيّ تساوي مساحته ثلاثة أضعاف مساحة البارثينون فضلاً عن عشرات الأضرحة الملكية الأخرى وما يربو على ألف ضريحٍ عادي ومسرحٍ لابد من أنه المكان الذي شهد اغتيال فيليب خلال حفل زفافٍ في العام 336 قبل الميلاد. خلف الاسكندر أباه على عرش المملكة، وكان آنذاك قد بلغ العشرين من عمره، بيد أن سيرته اللاحقة غدت تاريخاً عالمياً بحق، فبحلول العام 323 قبل الميلاد، تسيّد الملك الشاب، الاسكندر الأكبر، على إمبراطورية امتدت رقعتها من مصر غرباً حتى جبال هندوكوش شرقاً. ويعرض المتحف الجديد، الذي افتتح في 19 ديسمبر/ كانون الأول، الفائت ما أحرزته هذه العائلة الملكية من منجزات تصرّ كوتاريدي على أنها لا تقتصر على الغزو وفتح المناطق والأقاليم فحسب. فبالنسبة لها، شكّلت عاصمة مقدونيا القديمة أنموذجاً أولياً لنوعٍ من الحضارة العمرانية التي امتدت لاحقاً من المغرب وصولاً إلى آسيا الوسطى. وبالتالي، يرفع عملها، إلى جانب المتحف، عقيرتهما بالتحدي إزاء وجهات النظر التقليدية حول التاريخ الغابر، فهما يطرحان أسئلةً لمّاحةً حول الإرث الذي خلّفته الإمبراطورية. لطالما قوبلت حقبة الاسكندر الأكبر بالتبجيل والتوقير على الرغم من أن حكمه للإمبراطورية لم يدم طويلاً. فعلى سبيل المثال، أطلق اسمه على الكثير من الأماكن في القارتين الآسيوية والأفريقية ناهيك من أنه اليوم اسم علمٍ شائع عند الأتراك والعرب والفرس. وتحتضن المكتبة البريطانية في لندن حالياً معرضاً حول الطرق الكثيرة التي اتبعت في سرد حكايته، بدءاً بالمخطوطات القروسطية وانتهاءً بأعمال الرسوم المتحركة في العصر الحديث. ومن وجهة نظر كوتاريدي، ثمة ناحيتان تسترعيان الانتباه في حكاية الملوك المقدونيين على وجه الخصوص.

أولاً، الفعالية التي أرسى من خلالها فيليب أسس مجتمعٍ متطوّر يستند في علاقاته الاقتصادية إلى المال إذ إنه نجح في تطويره انطلاقاً من جماعةٍ من الرعاة الأجلاف، ولا يفوتنا في هذا السياق التذكير بأن الاسكندر قد حدّث جنوده ذات يوم حول ما قام به والده إذ وجدهم «عشيرةً من الفقراء والصعاليك المشرّدين، ممن لا تكسو أجسادهم إلا قطع من الجلد وممن لا يكادون يجدون ما يعلفون به أغنامهم ... إلا أنه نجح في تمدينهم وإخضاعهم لسيادة القانون وارتقى بهم من الهمجية إلى الحضارة».   

أما الناحية الثانية، فهي تتبلور من خلال استنساخ التطوّر العمراني السريع الذي شهده عهد الملك فيليب في شتى أرجاء ما دُعي بالعالم الهلنستي، أو بتعبير آخر في جميع أنحاء الدول التي ورثت إمبراطورية الاسكندر إثر تداعيها وورثت معها التأثير الإغريقي، فعلى حدّ تعبير كوتاريدي ترك الفاتحون المقدونيون وراءهم نموذجاً متميزاً من المجتمع المتمدن، فهو وإن لم يكن على ذات القدر من الديمقراطية والسؤدد الذين تميزت بهما أثينا إبان عصرها الذهبي، بيد أنه استند إلى مؤسسات أدت وظائفها على أكمل وجه ناهيك من توفير شتى أسباب الرفاهية للمواطنين المعنيين، ممن شعروا بالفخر والاعتزاز حيال انتمائهم إلى مجتمعٍ حضاري أسهم في إعلاء صرحه شعبٌ متعدد اللغات والمعتقدات. فكما أشارت إحدى اللوحات في المعرض الجديد، لقد أفضت حملات الاسكندر «إلى تجاوز الصدام القديم قدم الأزل ما بين القارتين الأوروبية والآسيوية، وصولاً إلى إقامة أحد أبرز الحضارات على مرّ التاريخ العالمي من حيث ما تميّزت به من الإبداع والتطوّر والتعايش».

غير أنه غالباً ما يجري تصوير التاريخ الغابر على نحوٍ مختلف، إذ يتم التركيز بصورةٍ عامة على الدول- المدن التي ازدهرت خلال القرن الخامس ومطلع القرن الرابع قبل الميلاد، وعلى رأسها أثينا، ومن ثم كورنث وثيفا (طيبة) والدولة المدينة المحاربة أسبرطة. وانطلاقاً من هذا المنظور، يبدو صعود نجم فيليب وابنه الاسكندر، اللذين أخضعا المدن الإغريقية الجنوبية، بمثابة حركةٍ تاريخيةٍ تراجعية. إلا أن كوتاريدي ترى أن الدول- المدن الإغريقية قد استنفدت قواها تماماً إثر الحرب الضروس التي ما فتئت تخوضها فيما بينها. وبالتالي، لاشك أن المدن العالمية التي تطوّرت إبان صحوة الاسكندر قد شكّلت حركةً نحو الأمام.

وتواصل كوتاريدي مؤكّدةً بصورةٍ خاصة على أن المدن الهلنستية لعبت دوراً حيوياً في صياغة الشكل الديني للعالم المعاصر، إذ إنها شكّلت مراكز لطلائع المسيحية لابل وللحضارة البوذية على حدّ ما يراه الكثيرون أيضاً. فعلى سبيل المثال، لم يكتفِ الملوك الهنود الإغريق، الذين بسطوا سيطرتهم على ما يعرف اليوم بالبنجاب الباكستانية، بممارسة الشعائر البوذية وحسب، وإنما قاموا بالتبشير بتلك الديانة وبنشر تمظهراتها وتعبيراتها الفنية أيضاً.

ولمساعدة الزوّار على رؤية الصورة كاملةً، يقدّم المتحف تسجيل فيديو ضخماً يعرض الآثار الهلنستية في بلاد الشام وغيرها من أقاليم الشرق، مما يجسّد اللبنة الأولى في معرضٍ رقمي هائلٍ يتناول الحقبة الهلنستية على حدّ تعبير كوتاريدي. ووسط الأسلحة والحلي والأواني، تنتصب منحوتةٌ لوالدة فيليب، الملكة يوريديس، متسربلةً بثوبها المنسدل، بوصفها أجمل هذه التحف وأبهاها. ويعيد هذا النمط الفني من تصوير المرأة الملكة أو الإلهة إلى الأذهان الطريقة التي جرى من خلالها تصوير العذراء مريم. كما يعيد البهو الداخلي للمتحف إنتاج الطابق العلوي من القصر الملكي بصورةٍ دقيقة مستعيناً بأجزاء أصليةٍ من ذلك الموقع المجاور له والذي سيشرع أبوابه للجمهور في الفترة الوجيزة المقبلة.

فهل تذهب كوتاريدي بعيداً في انحيازها للمدن الهلنستية ودورها التأسيسي للعالم المعاصر؟ قد يرى منتقدو هذا الرأي أن المسيحية واليهودية والإسلام جميعها أديانٌ تناصب العداء للوثنية وتعددية الآلهة الإغريقية التي نشرها الفاتحون المقدونيون في أرجاء واسعةٍ من إمبراطوريتهم مترامية الأطراف. ولكن على الأقل، وفّرت الحضارة الهلنستية وسيطاً ملائماً لتطوير هذه الأديان، التي تطوّرت بالفعل بصورةٍ جزئيةٍ في المدن الهلنستية العظيمة، مثل الاسكندرية في مصر. علاوةً على ذلك، يجري الطعن بإرث الملوك المقدونيين في الأقاليم الشرقية من العالم الهلنستي، الذي راح الناس فيه يقرؤون الأدب الإغريقي ويمارسون الشعائر البوذية منذ العام 200 قبل الميلاد على وجه التقريب. فبينما يعكس النزاعات التي ضربت صفوف المستعمرين في وقتٍ لاحق، يبدي العلماء الهنود نفوراً مفهوماً من وصف الاسكندر بالقائد الذي أخذ على عاتقه «مهمة نشر الحضارة» في العالم.