في أوقات، بين الأوقات الجادّة والمزدحمة بما هو ضروريٌّ وعاجل، أتابع ما يتفضّل به بعض الأدباء او المتأدبين من القرّاء. جيد أن تكون هناك علامات تدلُّ على اهتمام وعلى أن هناك من يتوقف عند ما تكتب او تنتج. شخصياً لا أرى بأساً في هذا ان كانت له ضرورة كأن يكون تصويباً او تذكيراً بما فات الكاتب أو تأكيداً على ما استحسنه القارئ مما كتبه ذلك الكاتب. لكن ان تحول هذه ديدن سلوك واهتمامات صغيرة لا تنتهي في هذا وذاك واشغال النفس واضاعة الجهد بما لا طائل وراءه، فهذا أمر غير مقبول وفيه خسارة للمعقب نفسه، خسارة وقت وجهد مفترض ان يكونا لعمل جاد ينفع فيه نفسه والناس.
نحن لا نملك وقتاً مديداً بلا نهاية. لنا أعمار ولنا سنوات كتابة وانتاج بعدها تتلقفنا المتاعب العائلية والاجتماعية والصحية، ومتاعب العيش كما تعلمون.
من يكتب للصحافة اليومية ليس كمثل من يكتب لمجلة متخصصة له فضاء كافٍ للكتابة وللمراجع والاشارات. هنا في الصحافة اليومية انت محدد بعدد الكلمات وتفكر بالصفحة التي لا تريد احداً ينفرد بها ومتطلبات فن وادارة التحرير تستوجب تنوعا وانتباها لتنوع القراء ومشاربهم. المقالة لها فضاء محدد. والعمود الصحفي محدود بعدد الكلمات. والتجاوز ليس مرغوبا فيه فهو على حساب فضاء مخصص لمادة اخرى. كما ان تفاوت حجوم الأعمدة يسبب تعباً للمصمم. وهذه امور معروفة في العمل الصحفي. فلتكن ملاحظاتنا عمّا يفيد وينفع فليس الوقت رخيصا ولا متاحا دائماً لكي ننشغل بما هو عابر ولا ضرورة قصوى تضطرنا لإضاعة وقت يمكن ان نوفره لما هو أفضل منه.
فبدلاً من ملاحقة هذا وذلك على هنات أو مجتزآت أفكار. لننصرف الى ما هو أهم وأجدى. ليكن لك مشروعك واهتمامك باكتماله وكماله. اقول هذا لكي لا تندم من بعد على اضاعة وقت حلو ولكن في زمن بدأت تحتلك فيه المرارة!
مرةً سألني صديق كيف أكتب شعراً وأترجم وأكتب مقالاً وعموداً صحفيا، وكيف يتناسب العمود السريع مع الجديَّة الأخرى.
أولا: تنظيم الوقت والحرص عليه. وأقول لك مثلما أنا أديب، أنا صحفي وأمضيت ما يقارب النصف قرن صحافة.
ثانيا: أنا رجل يجب أن يعيش، ولكي ان يعيش يجب ان يكسب. ولكي يكسب الكاتب او المثقف يجب ان يعمل، ان يكتب ما ينفع ان كانت مهنته الكتابة. إذاً أنا أكتب بعض انتباهاتي او تجاربي او أفيد من قراءاتي وملاحظاتي عما أقرأ او أرى أو أسمع وأنبّه الى ما قد ينفع الناس. وطبيعي لا كاتب ينفع كل الناس ولا صحفي ولكن ان تنفع عدداً وغيرك ينفع آخرين. وهو هذا مسير الحياة وهي حياة الصحافة وحياتنا في الكتابة. سعادتك الشخصية لا بالمبلغ البسيط الذي تكسب ولكن برضاك عن نفسك وبرضا الناس وارتياح من يتابعك. كما انك تبقى حيوياً وحاضراً وان كنت في عزلة شخصية عن تجمعات المثقفين ومجالسهم ومقاهيهم. انت حاضر بينهم في تلك الكتابة وبينك وبينهم تواصل محبة وافكار. وقد تثير في كتاباتك من يتخذ من فكرة جاءت فيها موضوع بحث مستفيض اذا وجد فيه اشارةً، تذكيرا بما يهمه. هكذا يتكامل التواصل الثقافي ونحس بدفء النسغ الحي في حياتنا الثقافية، لا بالضغائن المجانية او الغيرة او الحسد او مرض الانتقاص من الاخرين. ما بين الادباء والمثقفين محبة الثقافة والادب والفرح بما احسن غيرك اثارته والكتابة فيه. وان رأيت غير ذلك فلا تعقيب ولا انتقاص تقسو فيه ولا شدة استياء. اكتب في الموضوع نفسه بفكر آخر، برؤية أخرى وبثقافة ربما اغنى. وهو هذا المتبع اليوم في المجلات الحديثة فلا احد يرد على أحد ولكن المجلة تنشر كتابة اخرى بوجهة نظر اخرى وربما بفلسفة ثقافية أخرى فيكون لنا بدل الكتابة الواحدة، في موضوع ما، كتابتان وليتها ثالثة او رابعة، فهو الخصب وهو تنوع الافكار والاسماء وهو التهذيب أيضا.
اعود لما بدأت فيه فأقول لتكنْ لكَ كتابتكَ. ليكنْ لكَ مشروعكَ لتكمله ولتُحسنْ إخراجه، ولا تُضعْ وقتكَ بما لا ينفعكَ كثيراً ولا ينفع الناس. كُنْ بعضاً حيّاً من الحياة ولا تَكُنْ عارضة يابسة في
الطريق..