إيران تملأ فراغ القوة في أرمينيا

بانوراما 2023/01/24
...

 غابرييل غيفن 

 ترجمة: أنيس الصفار                                             

بلدة “كابان”، مجتمع التعدين الغافي في أحضان جبال الجنوب الشرقي من أرمينيا، قد لا تبدو مركزاً محتملاً للدبلوماسية الدولية، ولكن في شهر تشرين الأول من العام الماضي اجتمع المسؤولون الأرمينيون وسط ساحتها المركزيَّة لقصِّ شريط افتتاح أحدث قنصليَّة فيها والترحيب بالوفد الزائر من جمهورية إيران الإسلاميَّة.

فعلى مبعدة ميلين لا أكثر من موقع أحدث بعثة دوليَّة لطهران تمتدُّ الحدود مع أذربيجان، ومن حولها منطقة “سايونيك” الأرمينية التي عاصمتها “كابان”. 

هذه المنطقة كانت في قلب النزاع المتصاعد بين “ييريفان” و”باكو” اللتين خاضتا في ما بينهما حرباً دمويَّة رغم قصرها على منطقة “ناغورنو كرباغ” في العام 2020، واليوم ها هي طهران تزج بنفسها في مخاضات هذا النزاع ملقية بثقلها السياسي والعسكري وراء “ييرفان”.

قبل افتتاح القنصليَّة بأيَّام أعلن فيلق الحرس الثوري التابع لإيران الاسلاميَّة أنَّ قواته ستجري مناورات حربية “ضخمة” على الحدود الإيرانية مع اذربيجان.

ووفقاً للعميد الإيراني محمد باكبور “أعدت تلك المناورات بقصد إرسال رسالة سلام وصداقة الى بلدان المنطقة، وفي الوقت نفسه إبداء القدرة على الرد الحاسم ازاء أي تهديد”.

رداً على تصاعد التوترات في منطقة جنوب القوقاز قال “نيد برايس” المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية مخاطباً الصحفيين في مطلع شهر تشرين الثاني الماضي إن واشنطن قد أوضحت بجلاء أن إيران تمثل مصدر تهديد للمنطقة، وأن واشنطن ستواصل في نهاية المطاف التصدي لمثل هذا التأثير المزعزع للاستقرار الذي تمثله إيران في منطقتها وربما حتى خارجها، على حد تعبير المتحدث. 

نظراً لكونها نظاماً ديمقراطياً يتمتع بلبرالية نسبية، وتباهيها بأنها أول دولة مسيحية في العالم، قد تبدو ارمينيا شريكاً بعيد الاحتمال لإيران. 

لكن بعد تعرض البلدات والقرى الأرمينية على طول الحدود للقصف الثقيل من جانب اذربيجان لفترة وجيزة خلال شهر ايلول الماضي، وإلقاء المسؤولين الغربيين اللوم على باكو معتبرين إياها الطرف المبادر باطلاق النار، تلفتت “ييريفان” طلباً للدعم حيثما وجدته.


التقاعس الروسي

رغم عضوية “ييريفان” في الكتلة العسكرية المسمّاة “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” التي تقودها موسكو رفضت روسيا حتى الآن دعوات ارمينيا اياها للتدخل. 

أما إيران فقد ابدت أتم الرغبة والاستعداد لملء فراغ القوة وفتح جبهة أخرى ضد اذربيجان والقوة الداعمة لها المتمثلة بتركيا التي لا تنظر إليها بعين الثقة منذ وقت طويل وترى فيها منافساً محتملاً لها في المنطقة.

في شهر تشرين الثاني 2020 وقعت “ييريفان” و”باكو” بدعم من موسكو اتفاقاً لوقف اطلاق النار بينهما في اعقاب قتال شرس استمر اكثر من شهر على اقليم “ناغورنو كرباغ” الواقع داخل حدود اذربيجان المعترف بها دولياً لكن القوات الأرمينية تفرض عليه سيطرتها منذ تسعينيات القرن الماضي. 

وبعد سلسلة من الاندحارات في ساحة المعركة أذعنت ارمينيا ووافقت على تسليم السيطرة على مساحات من تلك المنطقة كما تعهدت بضمان سلامة إتصالات النقل بين اراضي اذربيجان وجيب “ناقيشيفان” التابع لها عبر منطقة “سايونيك” الفاصلة بين الاثنين، واضعة في الاعتبار تنظيم حركة المدنيين والمركبات والبضائع في الاتجاهين من دون عوائق.

منذ ذلك الحين اوضح المسؤولون الاذربيجانيون دون أدنى لبس أنهم يفسرون الاتفاق بأنه يعني منحهم طريقاً سيادياً سريعاً، يطلق عليه “ممر زانغيزور”، يخترق اقصى الجزء الجنوبي من “سايونيك” ويقدر له مستقبلاً ان يفصل ارمينيا عن إيران، في حين تصر “ييريفان” على ان هذا المطلب ليس له اساس في صفقة 2020.

وسرعان ما عزا المحللون عمليات ايلول العدائية بين الجانبين الى مشاعر الاحباط المتزايدة التي استحوذت على باكو جراء فشلها في الحصول على ما تريد عبر القنوات الدبلوماسية.

يبدو ان الكرملين، الذي تشتت تركيزه بسبب الحرب في أوكرانيا، لم يعد راغباً او قادراً على العمل كضامن أمني لييريفان رغم كونها عضواً في “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” وانه ملزم بالتدخل إذا ما تعرض شريك لهجوم. 

وكان قرار روسيا بعدم ارسال قوات الى هذا البلد بعد اشتباكات شهر ايلول الماضي أدى الى خروج احتجاجات جماهيرية في ييريفان نادى فيها المتظاهرون الأرمينيون بالانسحاب من منظمة معاهدة الأمن الجماعي.

وفي شهر تشرين الثاني اعلن الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف أن هناك محادثات بشأن ممر “زانغيزور” تجري في موسكو، وليس في ييريفان، وأن أرمينيا لن يكون بمقدورها اعتراض الخطة، إذا ما تبناها الكرملين. 


إيران تراقب وتعارض 

أما إيران فقد كانت تأخذ موقف المعارضة منذ وقت طويل إزاء أية تغييرات في الوضع القائم على طول حدودها الشمالية، وجزء من السبب في ذلك هو انها لا تريد لتركيا، حليفة اذربيجان العتيدة، ان توسع نفوذها بالقرب من حدودها. 

بهذا الصدد قال المرشد الاعلى الإيراني آية الله علي خامنئي محذراً في شهر تموز من العام الماضي لدى اجتماعه بالرئيس التركي رجب طيب اردوغان: “اذا ما كان هنالك مسعى لغلق الحدود بين إيران وارمينيا فإن الجمهورية الاسلامية ستعارضه لأن هذه الحدود كانت طريقاً سالكاً للاتصال منذ آلاف السنين”.

يقول حسين بنائي، وهو استاذ مشارك من جامعة انديانا بلومنغتون ومتخصص في شؤون المنطقة: “طهران تعارض عسكرة الممر من قبل تركيا او استغلاله امنياً، كما لا تريد له ان يصبح شأناً اذربيجانياً غير قابل للتفاوض، وباعتقادي ان هذا هو ما تحاول خطوة افتتاح القنصلية تحقيقه.

إذ إن إيران تصعد الآن لأن قادتها يشعرون بأن روسيا لا تبذل ما يتطلبه الأمر لإلزام كل ذي حد حده”.

يتزايد قلق إيران ايضاً بشأن علاقات اذربيجان الوثيقة مع اسرائيل، حيث بدأت الدولتان بتبادل  التكنولوجيا العسكرية، كما قامت باكو بتزويد اسرائيل بـأربعين بالمئة من احتياجاتها من الطاقة. 

وفي شهر تشرين الأول قال العضو في البرلمان الإيراني محمد صفائي “إن الصهاينة يحاولون تقويض نفوذ الجمهورية الاسلامية في اسيا الوسطى ولكنهم لن يفلحوا أبداً”. 

وفي رد واضح على افتتاح القنصلية الإيرانية في كابان صوت البرلمان الأذربيجاني لاحقا بالموافقة على فتح سفارة لأذربيجان في اسرائيل، وهذا سيجعل منها أول دولة مسلمة ذات اغلبية شيعية تفعل ذلك.

يقول بنائي إن سياسة إيران الخارجية تمثل امتداداً لارتياباتها الداخلية، وان تصرفات طهران في الخارج تهدف لإنشاء مناطق مقاومة عازلة بوجه كل ما تعتبره مخططات صهيونية او غربية امبريالية تستهدف أراضيها.

أن تكون سياسة طهران الخارجية مستمدة من مشاعر الارتياب في الداخل فمن المرجح ان يكون دبلوماسيوها الان على اعلى درجات التأهب بسبب حركات الاحتجاج غير المسبوقة في جميع انحاء إيران خلال الاسابيع الاخيرة التي ألقت الحكومة باللوم فيها على القوى الغربية. وإذ يلوح التهديد بالتمرد العلني كتهديد خطير للدولة، يصبح احتمال التململ في المناطق التي تقطنها اعداد كبيرة من جماعات الأقليات المحرومة في كثير من الاحيان مصدراً متنامياً للقلق، لا سيما اذربيجان الايرانية الواقعة في الشمال الغربي من ايران حيث يعيش كثير من مواطني العرقية الأذرية التي يقدر تعدادها بنحو 15 مليون نسمة. في شهر تشرين الثاني اندلعت في هذه المنطقة احتجاجات واسعة تركزت في مدينة تبريز عقب وفاة فتاة عمرها 23 عاماً اثناء احتجازها من قبل أجهزة الأمن.


تطلعات أذربيجان 

بعد ذلك، أشار علييف من طرف خفي الى تعامل إيران مع اقليتها الأذرية حين قال: “إن أمن هؤلاء وحقوقهم وسلامتهم لها أهمية قصوى بالنسبة لنا، وسنواصل فعل اي شيء لمساعدة الاذربيجانيين الذين ألفوا أنفسهم مقطوعين عن دولتنا”. كما ظهرت عدة جماعات من المحتجين تطالب بانفصال اذربيجان الإيرانية عن إيران والخضوع لحكم باكو بدلاً منها، في حين قامت قوات الأمن التابعة لعلييف بحملة اعتقالات بعد ادعائها بتفكيك ما وصفته بأنه خلية تأثير ايرانية.

يقول روزيف حسينوف، وهو عضو هيئة تدريس مساعد في اكاديمية اذربيجان الدبلوماسية ومدير مركز “توبشوباشوف” للدراسات في باكو: “الحديث الذي سمعناه مؤخراً من الرئيس علييف يمثل تطوراً جديداً.. ففي الماضي كان الزعماء الأذربيجانيون يزنون خطابهم جيداً ويحذرون من استفزاز إيران، وهذا موقف غير مسبوق، وهو كما أراه ردة فعل للنهج الذي تنتهجه إيران”.

يمضي حسينوف مضيفاً أن اهتمام إيران بالحفاظ على الوضع الراهن كما هو منبعه مخاوفها من أن تخرج اذربيجان من الصراع مع ارمينيا قوية الى درجة تجعلها اكثر إغراء للأذريين الإيرانيين وفي هذا مصدر خطر على أمن إيران، إذ يبدو ان باكو بالنسبة لطهران تكون اقل تهديداً إذا ما بقيت غارقة في صراعها الداخلي على ترابها فلا يبقى لديها متسع من الجهد لمد جسور التواصل مع مواطنيها المستقبليين عبر الحدود.

فضلا عن  ذلك كله، ثمة أسباب أخرى دفعت إيران لتوثيق علاقاتها بأرمينيا، وهي احدى الدول الصديقة الوحيدة في جوارها المباشر، بكلمة اخرى الفوائد التي يمكن ان تجنيها من علاقات ييريفان المحايدة مع الغرب.

يقول “ديفد هوفهانسيان” وهو دبلوماسي أرمني سابق يشغل حالياً منصب مدير قسم الدراسات العربية في جامعة ولاية ييريفان: “تستغل الحكومة الإيرانية أرمينيا كنقطة تواصل مع العالم الخارجي”. ووفقاً لما يقوله هوفهانسيان فإن كبار شخصيات النظام يقصدون أرمينيا لنيل فرصة نادرة يتخففون فيها من الضوابط المقيدة المفروضة عليهم. يقول هوفهانسيان: “يأتون الى هنا فيشترون سلعاً لا تتوفر لهم هناك ويستمعون الى موسيقانا ويشربون الكحول وأمورا من هذا القبيل”.


دور العقوبات الأميركية 

فرضت واشنطن عقوبات على شركتين أرمينيتين ادَّعت أن سلوكهما يتنافى مع المصالح الأميركية من خلال تبادل الاعمال التجارية عبر الحدود مع إيران، الأمر الذي قاد الى تكهنات بأن قطاع الاعمال في هذا البلد يعين طهران على التملص من القيود المفروضة على وارداتها من المعدات الحساسة وسواها من السلع. في الوقت نفسه كانت المؤسسات المالية في أرمينيا منذ عهد طويل تمد حبل النجاة للمصارف الإيرانية والمستثمرين الذين يحاولون تحريك أموالهم الى داخل البلد او خارجه. كذلك زار وفد تجاري رفيع المستوى من طهران أرمينيا في شهر آذار كجزء من مساعي تعزيز العلاقات الاقتصادية واستعادة الايرادات التي تمس الحاجة إليها.

في غضون ذلك، ولعدم تمكنها من المجازفة باستعداء جارتها، انضمت أرمينيا الى 27 دولة أخرى في التصويت ضد مقترح الأمم المتحدة في شهر تشرين الأول الماضي يدين ما يصفه بأنه انتهاكات من جانب إيران لحقوق الانسان، ومن جملة ذلك احتجاز المتظاهرين السلميين.

لكن يبدو ان العلاقات في نهاية المطاف تبقى مرتبطة بالمصالح اكثر من ارتباطها بالتوافق الايديولوجي. تحدث “زوهراب مناتساكانيان، الذي أشرف على سياسة توثيق العلاقات مع إيران يوم كان وزيراً لخارجية ارمينيا خلال الفترةمن سنة  2018 الى 2020، فقال ان الشراكة تتسم بطابع عملي نظراً لتخوف كلا الطرفين من جيرانهما وتحسباً لتجدد الاعمال العدائية في المنطقة. وقال مناتساكانيان: “طالما بقيت التوترات في المنطقة بلا حل فمن الواضح ان إلتقاء المصالح بين أرمينيا وإيران تحت هذه الظروف سيكون متعلقاً بأمن حدودهما المشترك”.

أما بنائي فإنه يحذر من أن المجتمع الدولي يجب أن يشعر بالقلق من احتمال استغلال طهران ضعف موقف ييرفيان لتقوية ساعدها هي. يقول بنائي: “على الغرب أن يقلق من إمكانية تنامي النفوذ الإيراني في أرمينيا، أو أي مكان آخر، فالمنطقة كلها يمكن ان تتحول بسهولة الى بؤرة عالية السخونة كلما ازداد الوضع الداخلي في إيران تأزماً”. ففي ظل الظروف التي تواجهها الحكومة الإيرانية يمكن ان تصبح ردود فعلها الخارجية أشد حدة، وهذا ينطوي على احتمال وقوع عواقب خطيرة نظراً لهشاشة السلام في منطقة جنوب القوقاز.

يمضي بنائي مضيفاً: “المأساة هنا هي أن أرمينيا ليس أمامها من خيار في ظل هذا التنازع الناشب بين القوى العظمى إلا أن تحاول الخروج من هذا التحالف بأقصى ما تستطيع الحصول عليه لأنها تحشر في الزاوية حشراً”. 

بيد أن ما تعده أرمينيا ضرورة مؤسفة تبدو إيران مصممة على التعامل معه على أنه فرصة كبرى.