كارمن في فنلندا ولعنتها تطارد خالقيها

منصة 2023/01/25
...

  يوسف أبو الفوز 

استطعت، بشفاعة بطاقتي الصحفيَّة، الحصول على بطاقتين في موقع مناسب، 

لي ولشريكة حياتي شادمان، لمشاهدة باليه كارمن، التي تعرضها فرقة الاوبرا والبالية الوطنية الفنلندية، على مسرح دار الاوبرا، ضمن سلسلة عروض بدأت من 

مطلع هذا العام وتستمر طوال فترة الربيع.

كان الازدحام شديدا، وقابلنا هناك بدون اتفاق، بعض المعارف والأصدقاء. فرغم أجواء الحرب الأوكرانية الروسية (فنلندا لها حدود جوار مع روسيا تمتد لأكثر من 1200 كم)، فإنَّ الفنلنديين وبعد الخروج من إجراءات التقييد التي فرضها وباء الكورونا، يعيشون حياتهم بشكل طبيعي، والقاعة التي تتسع لأكثر من 1300 كرسي، كانت مكتظة، وكل المقاعد مشغولة حين ابتدأ العرض.

تنتصب وسط العاصمة الفنلندية، هلسنكي، في موقع ساحر، على خليج بحيرة، دار الاوبرا الفنلندية، التي تم الانتهاء من بنائها بشكل فاخر عام 1993، حسب تصميم واحد من أهم فناني العمارة الفنلنديين المشهورين عالميا، مجهزة بأحدث وسائل التكنولوجيا لبناء وتحريك الديكورات الضخمة، وبخشبة مسرح مساحتها خمسمئة متر مربع، وسقف بارتفاع 28 مترا، حيث بعدها بدأت مرحلة جديدة في مسيرة الاوبرا الفنلندية، التي تمتد بداياتها الى عام 1911، حيث كانت فنلندا جزءا من الامبراطورية القيصرية الروسية، وبحكم كون القيصر الكسندر الثاني (1855ـ 1881)، اختار هلسنكي عاصمة شتوية له، فقد شيد مسرحا خاصا لحفلات الاوبرا والباليه كانت تقدم عليه العروض التي أسهمت بتطور كادر فنلندي تدرب وأعد أجيالا لاحقة، أسهمت في ان ترسم نشاطات دار الاوبرا الفنلندية مسيرة باهرة بحيث انها قبيل ازمة الكورونا كانت تقدم سنويا نحو 300 عرض، يشمل حفلات موسيقية أوركسترالية لفنانين مشهورين، فضلا عن عروض الاوبرا والباليه، حيث في كل موسم يكون هناك اربعة عشر عرض أوبرا الى جانب سبعة عروض باليه، ويشترط ان يكون في كل عام هناك سبعة عروض جديدة، ثلاثة منها عروض باليه واربعة عروض اوبرا، وحيث يعمل في دار الاوبرا الفنلندية، كادر يضم نحو خمسمئة من الموظفين الدائمين، من أعضاء الأوركسترا، مغنين في الجوقة، عازفين منفردين، راقصي الباليه، أفراد خدمات فنيَّة وتقنيَّة، إداريين، فضلا عن عشرات المطربين والراقصين والموسيقيين، من مختلف الجنسيات، الى جانب وجود مدرسة للموسيقى والباليه تابعة لدار الاوبرا تضم 200 طالب.

حين كتب الموسيقار الفرنسي جورج بيزيه (1838 - 1875) أوبرا كارمن، استنادا الى قصة بروسبير ميريميه، المتأثر بأفكار ادباء التنوير،  لم تحقق نجاحا فوريا، واصابت الموسيقار بالكمد، فتوفي بعد ثلاثة أشهر من العرض الأول الذي قدم في 1875، وبعدها، مثلما تنبأ الموسيقار الروسي الشهير بيوتر تشايكوفسكي ‏(1840– 1893)، مؤلف المقطوعات الأشهر: بحيرة البجع، كسارة البندق والجميلة النائمة، الذي شاهد كارمن لأول مرة في عام 1880 بأنها ستكون من أشهر الاعمال الموسيقية في العالم، حيث أصبحت واحدًا من أكثر الأعمال شعبية والأداء بشكل متكرر.

في فنلندا، عُرضت كارمن كأوبرا لأول مرة في هلسنكي عام 1889، وتُرجمت إلى الفنلندية عام 1912. 

هذه المرة، في مطلع العام 2023، تقدم فرقة الاوبرا والباليه الوطنية الفنلندية، باليه كارمن، بتصميم رقصات من البريطاني ليام سكارليت (1986 - 2021)، الذي صمم رقصات العديد من عروض الباليه، وقدمها على المسارح، في مختلف الدول الاوروبية. المفارقة أنَّ بيزيه، مؤلف موسيقى كارمن توفي بعمر 37 عاما بسبب عجز في القلب وأشيع في الأيام الأولى لوفاته أنّه مات منتحرا، ومصمم رقصات باليه كارمن، البريطاني سكارليت مات منتحرا عن عمر يناهز 35 عامًا، وكأن كارمن تحمل لعنتها الدرامية معها عبر الأجيال! عرض الباليه الدرامي، الذي صممه سكارليت لأول مرة في الباليه الوطني النرويجي في عام 2015، وفي فنلندا استضاف العرض راقصين محترفين من الصين واليابان لمشاركة زملائهم الفنلنديين ليقدموا عرضا ساحرا استمر لساعتين وخمسين دقيقة وسط ديكورات معبرة، اتسمت بالواقعية والبساطة، لتعكس أجواء معمل صنع السجائر، البار الشعبي وحلبة مصارعة الثيران، ولعبت الإنارة دورا فاعلا في متابعة الفعل الدرامي وفي شحن عاطفة المتفرجين في متابعة الرقص الساحر للمجموعات خلال الفصول الاربعة للباليه.   

تدور أحداث باليه كارمن في اسبانيا، في مصنع للسجائر، في فترة الثلاثينات من القرن الماضي، قبيل اندلاع الحرب الاهلية، وهناك إشارة لتوزيع منشورات احتجاجيَّة، تقوم بتمزيقها ونزعها عن الجدران قوات الشرطة. في باليه كارمن نرى حياة العاملات الفقيرات، اللاتي عليهم الدفاع عن أنفسهن لأجل البقاء على قيد الحياة، من مضايقات الشرطة، وقيود العمل الثقيلة. كانت كارمن احداهن، بروحها المتوثبة، جمالها، وتوقها للحرية، الذي يجعلها متقلبة ومتوقدة عاطفيا، وحين أعجبت بالشرطي دون جوزيه، الذي هام بها، دفعته ليتخلى عن حبيبته الأولى لأجلها، فأهمل واجباته بسببها فتحول الى خارج عن القانون، لكنها سرعان ما أعجبت بمصارع الثيران اسكاميلو الوسيم، وصدت دون جوزيه، الذي عصفت به الغيرة فقام بطعنها وقتلها. لم تكن كارمن مجرد امرأة لعوب، بقدر ما كانت امرأة تنشد حريتها، وترفض القيود، حتى لو كانت قيود الحب، لكنها دفعت حياتها ثمنا لذلك. في عروضها الأولى، في فرنسا، في اذار 1875، كان مستهجنا ان يقدم عرض مسرحي أوبرالي، امرأة بهذه الجرأة تدخن علنا، يدعو سلوكها للحرية الجنسيَّة، وقدمت حياة العمال ومعاناتهم، وإنسانيَّة الخارجين على القانون، فأثارت في حينه الكثير من الجدل، واعتبرها البعض عملا يدعو للفجور وتخريب المجتمع. واثار ذلك غضب بيزيه في حينه، فقال لاحد اصدقائه (أن كل هؤلاء البرجوازيين لم يفهموا كلمة من العمل)، كان بيزيه يدرك ما يفعل، ففي عام 1867، حين تقدم لخطبة زوجته، رفضته عائلتها في البداية، فحسب كلامه لم يكن بالنسبة لهم أكثر من (مفلس، يساري، مناهض للدين وبوهيمي)، فقد عرف حينها بمخالطته بعض كبار الادباء التنويرين من (الحقبة الرومانسية) الذين تركوا تأثيرهم عليه مثل فيكتور هوغو.