يقظان التقي
بدأ عرض فيلم {عا مفرق طريق} للمخرجة اللبنانيَّة لارا سابا في الصالات اللبنانيَّة منذ 15 كانون الثاني الجاري، في سلسلة عروض تستقطب جمهوراً واسعاً، تليها سلسلة عروض للفيلم في أميركا الشمالية، استراليا، كندا، وعدد من الدول الأوروبية، والعربية، في السعودية، وقطر، والإمارات العربية، والأردن، وفي اقليم كردستان العراق. كوميديا رومانسيَّة، من طبيعة لبنانيَّة مرنة، ولينة، وجرى تصوير مشاهد الفيلم في وادي قنوبين.
يحكي الفيلم مغامرة إنسانيَّة طريفة، تتناسب مع إيقاعات أفلام الميلاد الكبرى.
لكنه ليس فيلما موسميَّا دينيَّا، ويقارب مسألة الإيمان بطريقة فلسفيّة، جماليّة، من نوع الخير والسلام، والمحبة، والتسامح، والقيم التي تجسّدها الكنيسة الكاثوليكية في روما.
أدوار الفيلم تجسّدها 4 راهبات يعملْنَ في دير، في الوادي، ويتعاضدْنَ، على تقديم الخدمات التربويّة والاجتماعيّة والإنسانيّة في المحيط.
أبطال الفيلم شادي حنا في دور بابا روما، جوليا قصار، بيتي توتل، ميرنا مكرزل، سينتيا كرم، ري زعرور، فضلاً عن كاتبة الفيلم الصحافية جوزفين حبشي.
الغرض الافتتاحي غير الرسمي للفيلم جرى في إطار الدورة الثانية لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في المملكة العربية السعودية.
قصة ممثل لبناني شاب يتنافس مع ممثل إيطالي، على القيام بدور البابا بولس السادس، مستوحاة من زيارة الأخير إلى لبنان، ويستعد هذا الممثل للقاء قداسة البابا فرنسيس، وقبل الانتقال إلى روما، يقرّر تمضية أيام هانئة في منطقة وادي قنوبين فيلتقي سرب الراهبات، وبطلة الفيلم شريكته عاطفيا ري زعرور.
سلسلة من المغامرات الطريفة، التي تجري على الطريق المؤدية للوادي المقدس.
تحرص المخرجة سابا وهي تتمتع بثقافة عالية على الخروج من إيقاع الرتابة والتكرارات البيروقراطية في حياة اللبنانيين شبه المأسوية، في مغامرة تصوير ذات معنى غير استهلاكي تدخلها منهجيا، ضمن بيئة من التحولات والمتغيرات، التي طالت عيش اللبنانيين والعالم، ولكن بطريقة تجريب فني، يعتمد تفكيك المعقد منها، والمركب، ويعود بها إلى طبيعة بسيطة من الايكولوجيا والإيمان والعفوية والحدس الايماني كرجاء، وعبر عواطف متقاربة ومتباعدة تعبر عنها الراهبات بتنافسيَّة.
لكن في شأني الخير العام والجمال.
لقاء مركب جمالي بين مخيلتين وزمنيين.
لقاء مع ذاكرة السينما، التي تناولت قصة الراهبات في فيلم مصري إنتاج 1965 (تم تصويره في لبنان)، إبان مرحلة الازدهار، فيلم سانتا باربرا في سلسلة الأوبرا الاميركية، والراهبة المغنية ووي غولدبرغ، في اكت سيستير، وبعد مضي 25 سنة على انتاج فيلم "البريئات".
ثم هي فلسفة العودة إلى روح البساطة والطبيعة في زمن ما بعد الحقيقة، والمجتمع ما بعد الاستهلاكي، وعالم من التواصل المشوّش، أحدثته ثورة التقنيات، والمعلومات حولت المجتمعات والعواطف شبه أميّة.
مستوى آخر هو العودة إلى عصر من الرومانسيَّة، ومن نوع المونتاج الرائع المصور لثقافة إيكولوجية، واركيولوجية، في الرسالة الصورة (مارشال مأكلوهان) بقالب إيماني شاعري بسيط، بعيدا عن الصعب المركب في الحياة
المعاصرة.
ربما هو التمييز الفني بين ما هو حداثي كلاسيكي جميل، وبين ما هو معاصر وفانتازي، من نوع انشغالات الراهبات وطقوسها اليوميَّة، التي تتقدم فيها الوظيفة الاجتماعيّة، والتي تضطلع فيها الكنيسة تأكيداً على مسؤوليتها الاجتماعية والأخلاقية.
لا تغفل سابا فكرة التحريض على فلسفة الحياة البسيطة، مخاطبة الجمال الذي تمثله زهرة، طقوس الإيمان، الوادي، التي تصبح أحيانا نهراً للابتهالات، أهم من الإيمان نفسه، فكرة الحرية بعد أزمة انتشار كوفيد 19، والتحرر من الحجر المنزلي، واجتراح حضور آخر، أكثر حيوية في زمن الأزمات المادية، والعولمة وخيباتها، حيث تصدح موسيقى الشفاء، تفتح طريقاً إلى قلوب مسامحة، شكلا من أشكال التأمل، الذي يمكن أن يستمر طويلا بين ناس تربطهم صداقة رائعة. الأصدقاء وجودهم ضرورة.
هناك شيءٌ يتجاوز كل المصاعب.
يجب أن نكون في حالة حب.
لا يخلو الفيلم من روح السخرية الحداثيَّة، مع ممثلات قديرات مثلْنض بشغف، ومرونة، ونهضْنَ شموليَّاً في أداء متماسك، متفجّر، جاذب، ومع ممثلين يتمتعون بخبرة فنية وخبرة مسرحية عالية جدا، أمثال نقولا دانيال، ورفعت طربية.
الفيلم واجه صعوبات انتاج مادية قبل ان تتولى شركة الصباح، والمركز الفرنسي الوطني للسينما محاولة انقاذه ماديا بعد تعثره.
فيلم للمشاهدة الواسعة يلاقي اقبالا ونجاحاً.
بإيقاع إخراجي سينوغرافي وحركي وادائي يؤلف الاخراج جيدا بين عناصره والنص.
توليفة اخراج ذكية وبرومنطقية متأخرة.
لكن جميلة على مفرق طريق لبناني حافل بالمخاطر الوجوديَّة، والإنسانيَّة.
فتشير سابا إلى صور وتفاصيل وفصول أخرى على الطريق من النص والحياة، بشاعرية مدهشة، على مساحة فنية مضبوطة، متماسكة، وحية.
إنها الرحلة في طقوسها، وظاهرها، وباطنها، وتأويلاتها، ماهياتها، وتحولاتها الداخلية، الهوية المتنوعة للصورة، في الفضاء الطبيعي، بعناصره الطبيعيَّة، التاي صارت هي النص، واصمت صار النص، والسينوغرافيا البصرية صارت النص، وبحياة جديدة، طالعة من المكان، والمخيلة الفنية للمخرجة وأدواتها الأدائيَّة، والتمثيليَّة.
هذا العالم يتمتع بالسهولة، التي تدعم فكرة الايمان، أكثر من أي وقت مضى، نواجهه بذواتنا.
العودة إلى الذات.
وهذا مصدر كبير للرضى.