المتحـف الرضـوي فـي إيـران.. سَـفـرٌ فــي الحـضــارات والأزمنــة

منصة 2023/01/29
...

  هدى عبد الحر

دائما ما تسحرني فكرة السفر عبر الزمن التي تبدو مستحيلة عمليّا الآن. ولكنها نظرياً ممكنة من خلال معادلات الفيزياء المعقدة، هذا السفر له صورة أخرى نجدها في مكان بعيد جدا عن الفيزياء، وهي المتاحف حينما يضمك المكان وينجح في فرض زمنيته عليك لتكون أنت المكين المسافر من خلال الأزمنة، هكذا شعرت وأن أخطو داخل المتحف الرضوي ذات يوم.

إذ أخذتني خطواتي المتمهلة الخاشعة، صوب نهاية المزار المقدس للإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وإذا بإيوان فخم   يرتفع عن الأرض بثلاثة أمتار تقريبا، قوس كبير من الكاشي الكربلائي يزينه الآجر بنقوش مميزة وجاذبة للعين تستهوي كلّ من يمرّ عليها، تسمّرت أمامه بدهشة متسائلة وعيوني تمسح بشغف من خلف زجاج النظارات قطعة تعلو ذلك القوس الكبير كُتب عليها (موزه آستان مقدس.. موزه رضوى)، أي متحف العتبة الرضوية سارعت للدخول وكلي شغف ولهفة وفضول لمعرفة ما بداخل هذا المكان الأنيق الجذاب..  إلاّ أنني توقفت على الفور، إذ شدّ انتباهي سيدة ورجل عجوز يقطعان تذكرة في المدخل المجاور، حيث يقف الناس في انتظام ينتظرون دورهم.

إذن لا بدّ لي من تذكر وكانت بمبلغ بسيط دفعتها بفرح وأخذت الورقة المربعة الصغيرة وتحركت بشوق نحو باب عالٍ هو مدخل لمبنى فخم يبهر العين ويأنس النفس.. لفت نظري قطعة ملصقة على الجانب الأيسر كُتب عليها أوقات الدوام الرسمي وأيام العطل باللغة العربية والفارسية والإنكليزية، تواجهك لحظة الدخول باحة المتحف، وهي مربعة ومسيجة بالزجاج السميك ومزينة بالنباتات الظلية.

على الجانب الأيمن باب صاجي كبير على جانبه اليمين قُطع كتب عليها (موزه فرش) وهي الأشياء المخصصة للبيت، حيث تضّم أعمالا يدوية نفيسة، ومنها المرايا واللوحات النحاسية، وكذلك قطع الحجاب الحريرية ومصنوعات جلدية من جلد طبيعي مع محفظات وحقائب وسجاد من الحجم الصغير المخصّص  للعرض.

المتحف نظيف جدا وهناك دقّة في الترتيب، فضلاً عن الهدوء الغامر الذي يعمّ الفضاء ويأسر الداخل إليه، ومن يدقّق يلاحظ أن البناية قديمة وذات طراز عتيق، لكن الترميم الدائم جعلها معاصرة ومجايلة لكل ذوق جديد.

معروضات المتحف المحفوظة في فاترينات الزجاج، تنتمي لمختلف العصور، هناك اللوحات الزيتية واللقى الأثرية، والمنحوتات، والكتب، والمخطوطات.

ولكن أشد ما أسرني أبواب الخشب المتنوعة، وهي من الصاج الفاخر التي يعود عمرها إلى مئات السنين وربما أكثر، وهي مسيجة ومؤطرة بالزجاج الواقي ويمنع لمسها أطلاقا.

وفي ظل هذه الأجواء العذبة ترى إقبال الناس من مختلف الأعمار والأجناس، ولا سيّما توافد الطلبة ومن مختلف المراحل (الابتدائية والإعدادية والجامعات) حيث يكون معهم عادة الأستاذ (آقا معلم) أو الأستاذة (خانم معلم)، وهو يشرح لهم ويوجههم داخل أروقة المكان المهيب.

وقد قُسّم المتحف على عدة أقسام لعل من أجملها القسم الخاص بالمقتنيات الأثرية من شبابيك الأمام علي بن موسى الرضا على مختلف 

المراحل، وهي تحف مشغولة من مختلف المعادن المطعمة والمزجّجة، وهناك السجاد الفاخر الذي عرفوا بالبراعة في صناعته، فمنه ما طرّزت عليه آيات قرآنية بخيوط الذهب ومنه ما رسمت 

عليه زخرفات اسلامية، لكن أجمل ما أدهشني وجود عاملة تقوم بنسج سجادة على الأرض وأمامها آلة النسيج، التي علقت عليها مجموعة من الخيوط وأخذت تعمل بهمة وهي مستمتعة في قمة سعادتها.

وهناك قسم كامل للأواني النحاسية المختلفة بمختلف أشكالها وعصورها، وهناك أيضا الحقائب الجلدية.. وكل ما يخطر لك على بال.. ويشعرك بأنك تجول خلال أزمنة بهية.. حيث لغة الفن البليغة التي تجعلك مأسورا بخطابها

الساحر.