تلالُ القمامةِ في الهند.. رعبٌ مستمر

بانوراما 2023/01/30
...

 فيديكا سود، رهيا موغول، 

ريشابه براتاب واربيت غويل

  ترجمة: بهاء سلمان

عند مكبِّ النفايات بمنطقة “بهالسوا” الواقعة شمال غربي العاصمة دلهي، يسير تدفق متواصل بلا انقطاع من شاحنات صغيرة بشكل متعرّج داخل تل قمامة لرمي المزيد من القمامة على كومة يبلغ ارتفاعها حالياً 62 متراً. وتندلع الحرائق جراء الحرارة وغاز الميثان بشكل متقطع، وقد عالج قسم حرائق دلهي 14 حريقا خلال السنة الماضية، كما أن من الممكن أن تبقى بعض الأماكن العميقة تحت الكومة مشتعلة لأسابيع أو لأشهر، في الوقت نفسه الذي يعمل فيه رجال ونساء وأطفال بالجوار، يبحثون في المكان لإيجاد مواد يمكنهم بيعها.

مناطق لا تصلح للعيش

ويقول بعضٌ من سكان بهالسوا البالغ عددهم مئتي ألف نسمة إنَّ المنطقة لم تعد تصلح للعيش، لكنّهم لم يتمكّنوا من العثور على مكان آخر للانتقال إليه، ولا خيارَ لهم إلّا استنشاق الهواء المسموم والاستحمام بالمياه الملوّثة. ولا تعد بهالسوا مكبَّ النفايات الأكبر لدلهي، فهي أقل بثلاثة أمتار عن الكومة الأكبر، وهو موقع غازيبور، ويسهم كلا الموقعين بالإنتاج الإجمالي لغاز الميثان للبلاد. ويعد الميثان ثاني أكثر أنواع الغازات الدفيئة الموجودة بكثافة بعد ثاني أوكسيد الكاربون، لكنه مسهم بفعاليّة بدرجة كبرى لأزمة المناخ لأنّه يجمع المزيد من الحرارة. وتنتج الهند الميثان من مكبّات النفايات أكثر من أي بلد آخر، بحسب مؤسسة مراقبة انبعاثات الغازات الدفيئة بواسطة الأقمار الاصطناعية، والتي تراقب الميثان بتلك التقنية. كما تأتي الهند في المرتبة الثانية بعد الصين من حيث إجمالي انبعاثات الميثان، بحسب بيانات قسم تعقب الميثان عالميَّاً التابع للوكالة الدولية للطاقة.

وكجزءٍ من مبادرته التي أطلق عليها “هند نظيفة”، أشار رئيس وزراء الهند “نارندرا مودي” إلى بذل جهود لإزالة جبال النفايات هذه، وتحويلها إلى مناطق خضراء. ومن الممكن أن يعمل هذا الهدف، في حال تحقيقه، على التخفيف من بعض من المعاناة عن أولئك السكان المقيمين بالقرب من مواقع التفريغ هذه، ومساعدة العالم على تقليص انبعاثات الغازات الدفيئة.

تسعى الهند إلى تخفيض إنتاجها من الميثان، بيد أنّها لم تنضم إلى 130 دولة موقعة على “التعهّد العالمي للميثان”، وهي اتفاقية لتخفيض الانبعاثات العالميّة لغاز الميثان بشكل جماعي لما لا يقل عن ثلاثين بالمئة من مستوياته خلال العام 2020 بحلول سنة 2030. ويقدّر العلماء بإمكانية تقليل هذا التخفيض لارتفاع درجة الحرارة عالميَّاً بنسبة اثنين بالألف، ومساعدة العالم على الوصول إلى هدفه بالابقاء على الاحترار العالمي بانخفاض يبلغ درجة ونصف مئوية.


غازات سامة

وتقول الهند إنّها لن تنضم إلى المعاهدة لأنَّ غالبية انبعاثاتها من الميثان تأتي من الزراعة، بنسبة تبلغ نحو 74 بالمئة من حيوانات المزرعة وحقول الأرز يقابلها أقل من 15 بالمئة من مكبّات النفايات. وفي بيان له في العام 2021، قال وزير البيئة والغابات والتغيّر المناخي “أشويني تشوبي” إنَّ التعهّد بتخفيض الإنتاج الإجمالي للبلاد من الميثان ربما سيهدد معيشة المزارعين والإضرار بالآفاق المستقبليَّة للتجارة والاقتصاد الهندي. ولكنها لا تزال تواجه تحديات أيضا بتخفيض الميثان من أكوام القمامة المتطايرة منها الأبخرة السامة.

عندما انتقل “نارايان تشودري” (يبلغ عمره الآن 72 عاما)، إلى بهالسوا سنة 1982، قال إنّها “كانت منطقة جميلة”، لكن كل هذا الجمال تغيّر بعد 12 سنة، حينما بدأت أول وجبات القمامة بالوصول إلى مكبِّ النفايات المحلي. ومنذ تلك السنوات، تصاعدت نفايات بهالسوا ليقارب ارتفاعها تقريباً ارتفاع مبنى تاج محل التاريخي، ولتصبح مَعْلَمَاً معروفاً بحد ذاته ومنظراً قبيحاً يرتفع كثيراً عن المنازل المحيطة به، مؤثراً على صحة الناس المقيمين هناك.

ويعاني تشودري من حالة ربو مزمنة؛ وأشار إلى أنه كان على وشك الموت حينما اندلع حريق هائل خلال نيسان من العام الماضي استمر لعدة أيام، ويقول: “كنت في حالة عسر شديدة، فقد كان وجهي وأنفي منتفخين. وكنت على فراش الموت. وكنا قد قمنا قبل سنتين بتظاهرات احتجاجيَّة، وتظاهر الكثير من سكان هذه المنطقة للتخلّص من هذه القذارة، لكن السلطات البلديَّة لم تتعاون معنا. أكدوا لنا أن الأحوال سوف تتغيّر نحو الأحسن في غضون سنتين، لكننا ما زلنا تحت الوضع نفسه والمعاناة لم تتراجع، بلا غوث يريحنا”.


نفايات لا نهاية لها

استنفد موقع التفريغ سعته خلال العام 2002، بحسب تقرير مركز العلوم والبيئة الصادر سنة 2020 عن مكبّات النفايات في الهند، وهي وكالة بحثيّة غير ربحيّة تتّخذ من نيودلهي مقرا لها، لكن من دون تطبيق المعايير الحكومية الموحدة ضمن أنظمة تدوير النفايات وجهود أكبر في قطاع الصناعة لتخفيض استهلاك البلاستك وإنتاجه، ستستمر أطنان النفايات بالتدفّق على هذا الموقع يوميَّاً.

لا يعد موقع بهالسوا مكان التفريغ الوحيد الذي يسبب الأذى لمن هو ساكن بالجوار، فهو أحد ثلاثة مكبات نفايات موجودة في نيودلهي، يطفح بالقاذورات المتعفّنة، وتنبعث منه غازات سامة نحو الهواء. وتوجد عبر الهند أكثر من 3100 مكب نفايات؛ ويعد موقع غاز “يابور” الأضخم في دلهي، إذ يبلغ ارتفاع الركام 65 مترا، وشأنه شأن بهالسوا، فقد تجاوز طاقته الاستيعابيَّة خلال سنة 2002، ويطرح حاليَّاً كميات هائلة من غاز الميثان.

وبحسب مؤسسة مراقبة انبعاثات الغازات الدفيئة بواسطة الأقمار الاصطناعيّة، يتسرّب في كل يوم من أيام شهر آذار (شهر مراقبة المؤسسة للانبعاثات) أكثر من طنين متريين من غاز الميثان من الموقع بمعدل كل ساعة. تقول “ستيفاني جيرمان”، المدير التنفيذي للمؤسسة: “إذا ما بقي هذا الحال لمدة عام كامل، فسيكون تسريب غاز الميثان من مكب النفايات هذا مكافئا للتأثير البيئي لانبعاثات سنوية من 350 ألف سيارة أميركية”.

لا تعد انبعاثات الميثان مصدر الخطر الوحيد النابع من مكبات النفايات من أمثال بهالسوا وغازيبور؛ فعلى مدى عقود من الزمن، أطلقت مواد سامة خطرة متجهة إلى داخل التربة، ملوّثة مصادر تجهيز المياه لآلاف السكان المقيمين بالجوار. في شهر آيار من العام الماضي، فوّضت وكالة سي أن أن مختبرين معتمدين لفحص المياه الجوفية حول منطقة مكب نفايات بهالسوا؛ ووفقا للنتائج، فإن المياه الجوفية ضمن منطقة لا يقل نصف قطرها عن خمسمئة متر من موقع مكب النفايات وجدت ملوّثة.


نتائج مفزعة

وضمن تقرير المختبر الأول، كانت مستويات الأمونيا والكبريت مرتفعة بشكل هائل عن الحدود المقبولة التي فرضتها السلطات الحكومية الهندية. وأظهرت النتائج الصادرة عن المختبر الثاني مستويات لإجمالي المواد الصلبة الذائبة، وهي كمية الأملاح غير العضوية والمادة العضوية الذائبة في الماء، المفحوصة ضمن إحدى العيّنات كانت تفوق بتسعة عشرة مرة تقريبا من الحد المسموح به، جاعلة إياها غير صالحة للشرب وللاستهلاك البشري. ويقوم مكتب المعايير القياسية الهندي بوضع الحد المقبول لإجمالي المواد الذائبة عند 500 ملغرام للتر الواحد، وهو رقم يعد عموما “جيّدا” من قبل منظمة الصحة العالمية. أما أي شيء فوق مستوى 900 ملغرام للتر، فيعد “هزيلا” من قبل المنظمة نفسها، وتعد نسبة 1200 ملغرام للتر “غير مقبولة”.

وبحسب “ريتشا سينغ”، من مركز العلوم والبيئة، فإنّ إجمالي المواد الذائبة في المياه المأخوذة من منطقة قريبة من موقع بهالسوا كانت تتراوح ما بين ثلاث آلاف وأربعة آلاف ملغرام للتر الواحد، وتضيف: “هذه المياه ليست فقط غير صالحة للشرب، بل إنّها أيضا غير ملائمة لملامسة البشرة والجلد، من ثمَّ، لا يمكن أن تكون ذات فائدة لأغراض مثل الاستحمام أو تنظيف الأواني، أو حتى تنظيف الملابس”.

يعمل الدكتور “نيتيش روهاتجي”، مديرا لعلوم الأورام الطبية في معهد فورتيس ميمورال للبحوث الكائن في مدينة جورجان الهندية، وقد وجه دعوة للحكومة لدراسة صحة السكان المحليين ومقارنتها بباقي مناطق المدينة، “كي لا نضطر خلال فترة 15 سنة المقبلة إلى النظر إلى الخلف والندم من اكتشافنا لمستويات أعلى من السرطان، ومخاطر صحية أعلى، وقضايا صحية أكثر ولم ننظر إليها ونقوّمها في حينها”.


شكاوى ومعاناة

يعتمد معظم الناس في بهالسوا على المياه المعبَّأة في القناني للشرب، إلا أنهم يستخدمون المياه المحلية للأغراض الأخرى، إذ يشير الكثير منهم لعدم امتلاكهم لخيار آخر. تقول “سونيا بيبي”، إحدى ساكنات بهالسوا، التي يغطي طفح جلدي أحمر اللون ساقيها: “المياه المتوفرة لدينا ملوّثة، لكننا مغلوبين على أمرنا، ومضطرين لتخزينها واستخدامها لغسل الصحون وللاستحمام، وأحيانا للشرب أيضا”.  

أما “جوالا براشاد”، 87 عاما، الساكن في كوخ صغير ضمن زقاق قريب من مكب النفايات، فيقول إنَّ كومة القمامة المتعفّنة قد أحالت حياته إلى “جحيم حقيقي”، ويضيف: “الماء الذي نستخدمه ذو لون أحمر باهت، وأشعر أن بشرتي تحترق بعد الاستحمام، لكن لا يسعني بعد الآن مغادرة هذا المكان،” وكان يحاول تخفيف ألم تقرّحات حمراء تعلو وجهه ورقبته.

مع غروب كل يوم، تصل أكثر من 2300 طن من النفايات البلدية الصلبة إلى مكب نفايات غازيبور، الأكبر في نيودلهي، بحسب تقرير صدر شهر تموز الماضي من قبل لجنة مشتركة تم تشكيلها لإيجاد وسيلة يتم من خلالها تقليص عدد الحرائق داخل الموقع. تأتي كميات المخلفات الضخمة من المناطق المجاورة للموقع، وتتم معالجة 300 طن فقط والتخلّص منها بوسائل أخرى، وفقا لما ورد في التقرير. وتم التعامل مع أقل من سبعة بالمئة من النفايات المطمورة منذ فترة طويلة ومعالجتها حيويا، حيث تتضمن العملية الاستخراج والمعالجة واحتمالية إعادة استخدام النفايات القديمة.

وتنشر المجالس البلدية لمدينة دلهي طائرات مسيّرة كل ثلاثة أشهر لمراقبة حجم أكوام النفايات، وتجري فحوص بطرق معيّنة لاستخلاص الميثان من جبال النفايات، وفقا للتقرير. لكن الكثير جداً من المخلّفات تصل يومياً وتعمل على إبقاء الوضع كما هو. وتشير اللجنة إلى أن المعالجة الحيوية كانت “بطيئة وغير دقيقة”، ولا يبدو أن المجلس البلدي لشرق دلهي، ضمن مجلسي دلهي الجنوبي والشمالي، محققا هدفه بتحويل جبال القمامة إلى أرض مسطحة بحلول سنة 2024.


توصيات بلا تنفيذ

ويشير التقرير إلى “عدم وضع خطط فعالة لتخفيض ارتفاع تلال القمامة”، والأكثر من هذا، فقد “كان من المفترض الإشارة إلى أن مكب النفايات المستقبلي في هذه المواقع سيعمل على تلويث أنظمة المياه الجوفية”، كما يضيف التقرير. وفي تقرير صدر سنة 2019، أوصت الحكومة الهندية بتطبيق وسائل لتحسين إدارة النفايات الصلبة للبلاد، ومن ضمنها إضفاء الطابع الرسمي لقطاع تدوير النفايات، وتنصيب المزيد من معامل السماد داخل الهند.

وبينما تم تنفيذ بعض التحسينات، مثل جمع أفضل للقمامة من أمام أبواب المنازل والمحال التجارية ومعالجة النفايات، ظلت مكبات النفايات في دلهي على حالة مستمرة بتكديس القمامة. وخلال شهر تشرين الأول الماضي، فرضت المحكمة الوطنية الخضراء، التي تعنى بقضايا البيئة، غرامة مالية على حكومة ولاية دلهي بلغت أكثر من مئة مليون دولار بسبب إخفاقها بالتخلّص من أكثر من ثلاثين مليون طن متري من القمامة عبر مكبات النفايات الثلاثة التابعة لها.

تقول ريتشا سينغ: “تكمن المشكلة في دلهي بعدم امتلاكها لخطة عمل ملموسة للنفايات الصلبة توضع موضع التنفيذ، من ثم نحن نتحدث هنا عن معالجة موقع تفريغ، وعن التعامل مع النفايات المطمورة منذ فترة طويلة، لكن لنا أن نتصوّر حجم النفايات الجديدة التي يتم طرحها وفقا لقواعد منظمة. كل هذه الكميات يتم تفريغها يومياً على تلال مكبات النفايات هذه”. 

وتواصل سينغ حديثها قائلة: “على هذا الأساس، دعونا نقول إنه تتم معالجة ألف طن من النفايات المطمورة، وبعد ذلك يتم تفريغ ألفي طن من النفايات الجديدة كل يوم، ليصير الأمر وكأنه دورة ضارة، وسوف تكون عملية معالجة لا نهاية لها مطلقا. بطبيعة الحال، فإنَّ إدارة النفايات المطمورة تجري وفقا لأمر تفويض رسمي من قبل الحكومة، وهي عملية ذات أهمية قصوى تماما؛ لكن لا يسعنا بدء العملية من دون امتلاك وسيلة بديلة لمعالجة النفايات الجديدة. وهكذا، هنا يكمن التحدي الأكبر”.