التنبُّؤ من منظور سيكولوجي

منصة 2023/01/30
...

  أ.د. قاسم حسين صالح *

توطئة:

طلب منّي كثيرون تفسيرا سيكولوجيا لـ (ظاهرة) ميشال حايك وليلى عبد اللطيف، اللذين حظيا بشهرة إعلامية لصدق الكثير من تنبؤاتهما. كما ذكروا لي.. وعن هذه الظاهرة تتحدث هذه المقالة.

 ظاهرة التنبّؤ.. تاريخيَّاً

 يعدّ التنبّؤ ظاهرة قديمة عند معظم الشعوب لا سيما اليونانيين والصينيين والمصريين. فعلى سبيل المثال، كان إله الشمس (رع) في مصر القديمة هو المصدر الرئيس للمعرفة بالمستقبل، وكان فيها معبد للتنبؤات في القرنين السادس والسابع قبل الميلاد. ويذكر أنّ المصريين إذا اعتزموا القيام بشيءٍ ذهبوا لكهنة المعبد ليخبروهم عن طريق استشارة الاله (آمون) بما سيحدث. ويروى ان الاسكندر الأكبر طلب من كهنة معبد آمون النبوءة ما إذا كان سيحكم العالم، فأجابوه.. نعم، ولكن لفترة قصيرة.

ولفخر الدين الرازي كتابات عن التنبؤ مبنية على ما اسماه المزاج الخلقي وتأديب العقل ورياضة الشرع، وأخرى في كتابات ابن القيم الجوزي عن الفراسة التي حصرها بدور التنبؤ في أحكام القضاة، غير أن أغلب ما في تراثنا العربي يدخل في نطاق الفراسة وتفريعاتها. وللدين الإسلامي موقف من هذه الظاهرة، فهو يرى أن ادعاء علم المستقبل عن طريق التنجيم او التنبؤ بالمستقبل أو غيره من الوسائل، أمراً يحرمه الاسلام، ويسمون من يمارسه كاهنا ويستندون إلى قول النبي محمد (من أتى كاهنا فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد). وهنالك كتاب بعنوان (التنبؤ بالغيب) للدكتور توفيق الطويل يوضح فيه موقف المفكرين الاسلاميين، الذين يرون أنّ التنبؤ المبني على قراءة للواقع والأحداث كتوقع انخفاض سعر النفط او الذهب مثلا.. فأمر مشروع، وأما ما كان من قبل التنجيم والكهانة والعرافة فإنّه حرام.

والذي يتعمق بتاريخ التنبؤ يتوصل الى ن بداياته كانت ذات طبيعة ميتافيزيقية او اسطورية، ثم تحولت الى مرحلة التخطيط المستقبلي او التخطيط الاستراتيجي، ثم أصبح (علم الدراسات المستقبليّة) فرعاً علميا أكاديميا في منتصف ستينيات القرن الماضي. وقد عمدت الدول الكبرى الى استثمار قدرات المتنبئين في مؤسساتها الاستخباريّة والأمنيّة.


 أشهر متنبِّئين

 ويعد نوستراداموس (ت 1566) الصيدلي والطبيب الفرنسي، أشهر متنبئ في العالم، وله ثلاث نبوءات: توقع وصول هتلر الى السلطة في العام 1933، وحريق لندن العظيم عام 1666، واغتيال الرئيس جون كينيدي عام 1963. ويعتقد كثيرون انه تنبأ بتفشي وباء الفيروس التاجي في العام 2020، بل ذهب آخرون إلى القول بان نوستراداموس أشار اشارة مباشرة الى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقوله في احدى رباعياته (أن البوق الكاذب الذي يخفي الجنون، سوف يتسبب في تغيير بيزنطة لقوانينها).  ومعروف عنه أنه كان يضّمن تنبؤاته في رباعيات.. فيما يرى مفكرون انه يتم استغلال كتابات نوستراداموس بعدد من الطرق الخاطئة، وفك الرموز غير الموجودة داخل رباعياته بتفسيرات (إبداعية).

ومن المفارقات أن امرأة عمياء اسمها (بابا فانجا.. ولدت عام 1911) ولقبت (نوستراداموس البلقان) كانت أشهر المتنبئين بالمستقبل. فقد ادهشت الجميع بأنها تنبات بأحداث 11 سبتمبر في قولها بالنص: (رعب، رعب !.. التوأمان الأمريكيان سيسقطان بعد هجوم من طيور حديدية. الذئاب ستعوي بين الحشائش وستتدفق الدماء البريئة!). وتنبأت هذه السيدة البلغارية العمياء بأن الرئيس الامريكي الرابع والاربعين سيكون من أصل افريقي.. وقد تحققت!

وهناك نبوءتان لها نرجو أن لا تتحققا.. الأولى، اقامة دولة الخلافة الاسلامية في اوروبا في العام 2043 ومقر حكمها في روما، والثانية.. أن العالم سينتهي في العام 5079!.


سيكولوجيا التنبؤ

 هنالك تفسيران لقدرة بعض الأفراد على التنبؤ:

الأول بيولوجي، يرى أن في دماغ كل إنسان ساعة بيولوجية تتنبأ بالمستقبل القريب وكثيرا ما تصدق بما يحصل قريباً، ما يعني أنك وأنا قادران على التنبؤ، ولكن بقدر محدود لكون التكوين البيولوجي لساعتنا هذه يكون عاديا فيما هي عند الذين يتمتعون بالقدرة على التنبؤ تكون متطورة بما يجعلها قادرة على التنبؤ بما يحصل في زمن أبعد، فضلا عن أن علماء الفسلجة يقولون بوجود ساعة بيولوجية ثانية عند هؤلاء تعتمد على تجارب الماضي للتنبؤ بما سيحدث في وقائع متشابهة.

وسيكولوجياً.. يعد الباراسيكولوجي أكثر فروع علم النفس اهتماما بهذه الظاهرة، وتشير دراساته إلى أن لدى كل شخص ملكة تسمى (الحاسة السادسة) تمتلك القدرة على استشعار الأحداث عن بعدٍ بعيداً عن الحواس الخمسة، وتتضمن أيضا استقبال المعلومات من المشاعر التي يستقبلها العقل بعيدا عن الحواس التقليديَّة، ويمكن من خلالها التنبؤ بأحداث المستقبل. وهذه الحاسّة (السادسة).. موجودة أيضا عندي وعندك، لكنها عند الأشخاص الذين يمتلكون القدرة على التنبؤ تكون متطورة..

وقد لفتت هذه الظاهرة انتباه المسؤولين في روسيا قبل أكثر من مئة سنة واستقطبت من يتمتع بها لأعداد البحوث النفسية الخارقة وحققت نجاحاً ملحوظاً في مجال التنبؤ بالمستقبل.

ومع أن هذه الظاهرة قديمة جدا لا سيما في اليونان والصين ومصر، فإنّها ما تزال يكتنفها الغموض، ولا يوجد لها جواب حاسم.. علميّا كان أم سيكولوجيا.

ومن جانبنا نرى أن الذين يتمتعون بالقدرة على التنبؤ، وتصدق نبوءاتهم بنسبة تزيد على ستين بالمئة (ولا أحد منهم تصدق نبوءاته مئة بالمئة)، تكون المراكز الخاصة بالذكاء والذاكرة والانفعالات لديهم متطورة. وأنهم ينفردون عن الآخرين بفضول معرفي وحب للشهرة وشغف سيكولوجي. 

فهم حين يريدون التنبؤ بحدث معين فإنهم يجمعون عنه المعلومات من مصادر مختلفة ويقومون بربط التشابهات فيما يبدو للآخرين مختلفا، وربط الاختلافات فيما يبدو للآخرين متشابها.. وقد يكون بعضهم قد قرأ نظرية الاحتمالات مكنته من استخدام قوانين الاحتمالات في الرياضيات بقيمة عددية تحدد احتمال وقوع حدث أو عدم وقوعه. وحين ينجح المتنبئ في أن يجعل من نفسه شخصية كارزمية.. عندها سيغفر له متابعوه إن أخطأ ويعظموه إن أصاب.


* مؤسس ورئيس الجمعيَّة النفسيَّة العراقيَّة