مــن الـفـقـيـة الـديـنـي إلــى الـمـثـقـف الـعـضـوي

العراق 2019/04/08
...

 
تشكل الطابع الفكري والفلسفي والنقدي واضحا في مؤلفات السيد محمد باقر الصدر حيث نجد ذلك في مؤلفاته (فلسفتنا)، (الأسس المنطقية للاستقراء) وكتاب (اقتصادنا) حيث يتأسس هذا المشروع على نقد ممنهج للفلسفة والفكر الغربي المعاصرة. ففي كتابه الشهير “اقتصادنا”، تحدث فيه السيد محمد باقر الصدر عن المادية التاريخية وقوانين الديالكتك والمراحل الخمس للمجتمع حسب الفكر الماركسي، لكنه في النهاية وضع الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي، وختم الشهيد الصدر بكتابه رسالتنا لتوضيح البناءات الايديولوجية الاسلامية. 
 
العمل على جبهات متعددة
سعى السيد محمد باقر الصدر للعمل على أكثر من جبهة من جبهات الفكر الإسلامي:
1ـ فعلى صعيد البناءات العقلية حيث  سعى الصدر لإعادة تكوين العقل الفلسفي والمنطقي في الفكر الاسلامي ، فعمل على الكشف عن قصور المنطق الأرسطي في تفسير الظاهرة المعرفية وتصويبها لوحده، وان اعترف بدوره الكبير في المعرفة الإنسانية، لكنه رأى فيه ( على المستوى العملي) بنية عقلية قاصرة عن امكانية التوظيف لخدمة القضايا المختلفة. وقام الصدر وفقاً لذلك بتقديم مشروعه في المذهب الذاتي للمعرفة، وهو مشروع يعتمد نظرية الاحتمال وقواعدها، فيلتقي مع علم الرياضيات، ويحاول أن يفسر الذهن البشري ونشاطاته الفكرية على أساس مرحلتين:
الاولى: التي تسمى بمرحلة التوالد الموضوعي، والتي يسير الفكر فيها من المفردات والجزئيات، فيتصاعد في القوة الاحتمالية التي يملكها وفقا لأصول موضوعية تلعب القواعد الرياضية دورها فيها.
والثانية: مرحلة التوالد الذاتي، التي يحاول فيها السيد الشهيد محمد باقر الصدر أن يصنع اليقين العلمي بالأمور، ويعطي للاستقراء دوره المعرفي في مقابل التيارات الشكية والترجيحية. فهذه المرحلة عنده يأخذ فيها الذهن نشاطا مستقلا عن القواعد الرياضية الصارمة، والمعايير الموضوعية الحاسمة، لكي يقفز ـ وفقا لبنيته الذاتية ـ من مرحلة إلى مرحلة.
 
النقد المزدوج .. الذات والآخر
لم يقف الصدر عند مستوى تكوين النظرية ـ المشروع، بل استمر في ممارسة تطبيقات متعددة لرؤيته المعرفية هذه مع علوم، كالفلسفة والكلام والرجال والفقه والأصول وغير ذلك. وإلى جانب النشاط المنطقي المعرفي والفلسفي الذي اشتغل عليه الصدر كان نشاطه الكلامي في العمل على إعادة بنية علم الكلام الإسلامي، مستخدما فيه المنهج الاستقرائي الذي يراه محمد اقبال المنهج القرآني الحسي في معرفة الطبيعة والوجود. 
إذا نجد عنده تفكيرا استيعابيا وفهميا لنظريات وأفكار الآخرين وقدرته على شرحها، فان أهم علامة دالة على استجلاء فهم الطرف الآخر للأفكار والرؤى هي التمكن من شرح الأفكار وإيضاحها بتسلط وهيمنة. حيث شرح الشهيد الصدر النظريات الاشتراكية والرأسمالية والوضعية، بحسب ما توفر عنده من مصادر، واذا رجعنا إلى موروثه الفقهي والاصولي نجد ان  مراجعة ذلك تكشف بطريقة جلية عن القدرة الواضحة على فهم الاخرين، والقيام بشرح وتحليل لأفكارهم، بطريقة ربما تكون أكثر من قدرة أصحاب الفكرة نفسها على شرحها وتحليلها وتفكيكها في بعض الأحيان. وهذه علامة مهمة لضمان سلامة التفكير. وأعتقد أن السقف الذي عالجه السيد الصدر في تفكيره النقدي كان انطلاقا من النقد السطحي، مروراً بالموضعي، ووصولا إلى النقد البنيوي، وذلك حين نقد الاتجاهات الماركسية في الاقتصاد، والماديين في الفلسفة، والمدارس المنطقية في علم المنطق. فنحن أمام رجل لا تقف انتقاداته أو نقدياته عند أفكار داخل أطر.
السيد الصدر اشتغل على الملفين معاً (نقد الآخر، ونقد الذات). ونقد الذات يحتاج إلى محاربة للأنا، لأنك تقوم في نقد الذات بمحاربة ذاتك للوهلة الأولى. فحين يقوم السيد الصدر بنقد الأمة الإسلامية فهو ينتقد ذاته الجماعية، وحين ينتقد المؤسسة الدينية فهو ينتقد ذاته أيضا، وحين ينتقد الحركة الإسلامية فهو ينتقد نفسه أيضا، وحين ينتقد الحوزات العلمية فهو ينتقد نفسه أيضا، وكذا البرامج التعليمية. واستخدم الشهيد النقد المزدوج من نقد الآخر ونقد الذات.
 
النقد الموضوعي
هناك فرق بين الخطابات التعبوية والخطابات الفكرية. ونقل الخطاب التعبوي إلى الفكر كارثة في كثيرٍ من الأحيان، كما أن نقل الخطاب الفكري أحيانا إلى الخطاب التعبوي فيه كوارث. التفكير النقدي هو وعي وبصيرة، لأنه قائم على رفض التقليد، إلا أن شهوة النقد ليست وعيا، وانما هي عجز عن تقبل الحقيقة في بعض الأحيان، يحتاج النقد إلى الخطوة اللاحقة، وهي وضع البدائل. وهذا ما فعله السيد الصدر حينما كان ينتقد المدارس الأخرى، حيث كان يضع بديلا ، ففي الفصل الاول والثاني من (اقتصادنا) حينما انتقد المدارس الأخرى تجده قد وضع في الفصل الأخير البديل، وفي (الأسس المنطقيّة للاستقراء) حينما انتقد المدارس التجريبية والعقلية والوضعية وضع بديله المتمثل بالمذهب الذاتي للمعرفة. وهذا البديل ضروري جدا في بعض الأحيان.البدائلية الاسلامية من رحم الرسالية.
 
الذهنيته الاستقرائية
 واصل الصدر مسيرته البحثية عبر ملاحقة المفردات الكلامية الاشكالية، ليضع لها حلولا تفصيلية تتبعيةً، منسجمة مع ذهنيته الاستقرائية. إن الصدر اهتم في (اقتصادنا) بفلسفة فقه النظرية.ان فلسفة وجود فقه النظرية تكمن في الحاجة الدفاعية، فان العقل المسلم صار بحاجة لكي يبقى إلى نسج رؤى متكاملة عن الحياة، استجابةً لتحديات مرحلة الخمسينيات والستينيات لمواجهة خصوم الإسلام السياسي .
 
هوية فقه النظرية
أما هوية فقه النظرية فهي هوية اجتهادية، بمعنى أنها حقل اجتهادي في النص. لهذا هو فقه، وليس خارج الفقه أو وراء النص. ان فقه النظرية يقوم على مبدأ الترابط، وان تأثير الشيء رهين ارتباطه بالأشياء الأخرى. فالبنك الإسلامي يدرس تارة في سياق إسلامي وأخرى في مناخ ربوي. وهناك ترابط خاص (ترابط مسائل = فقه نظرية)، وترابط عام (ترابط نظريات = فقه الهيكل العام/ اقتصاد + سياسة + عقيدة). 
وما يحتاجه فقه النظرية هو فهم اجتماعي للنصوص، ورفض تام لكل أشكال البتر السياقي لها وبالتحول من الفقه إلى الاجتماع نجد قضية العلاقة بين المثقف والفقيه ماثلة. فالمثقف وعيه تجريبي، والفقيه وعيه نصي. 
والمثقف متحرر، والفقيه ملتزم والمثقف ناقد، والفقيه مدافع. الامر الذي يخلق مشكلة في العلاقة، وهي علاقة مأزومة تاريخيا، تتجلى في التجربة المعتزلية تارة، وتجربة الفلاسفة أخرى. وقد ازدادت اليوم تعقيدا بعد تنامي العلوم الإنسانية، وانتقال المثقف في تموضعه من الخارج ـ ديني (ماركسي و…) إلى الداخل ـ ديني. وقد اهتم الصدر أكثر بالمثقف الخارج ـ ديني.
 
المثقف والفقية الخلاف الدائم
الخلاف بين المثقف والفقيه يرجع إلى إشكالية المنهج (حقية نصية أم واقعية تجربية/ المرجعية الماضوية وسلطان العقل)، وإشكالية السلطة وإشكالية الاعتراف المتبادل. 
وقد حاول الصدر فكّ هذا الاشتباك، عبر (تثقيف الفقيه وتفقيه المثقف تارة، وتحرير العلم والثقافة من الوضعية بتوحيد المنهج عبر (الأسس المنطقية للاستقراء)، مع تحرير الدين من الفقه من خلال انفتاح الصدر على العقليّات والسيرة تارة أخرى، ومبدأ المشاركة من قبل الفريقين في الإدارة الاجتماعيّة عبر تجربة الحركة الإسلاميّة التي تولاها الصدر في العراق في لحظة 
تاريخية.