إهمال المواقع الأثريَّة وغياب العمليات التنقيبيَّة الجديدة

ريبورتاج 2023/02/02
...

   محمد عجيل  

  تصوير: نهاد العزاوي

كانت بابل في الأزمنة التي سبقت عقد التسعينيات من القرن الماضي قبلة للسياح العرب والأجانب، وكانت المدينة الأثريَّة القديمة تعجُّ بمختلف الجنسيات التي تأتي كي تطلع على تاريخ العراق الحضاري، من خلال ما بناه نبوخذ نصر وحمورابي على مدار سنوات ما قبل الميلاد، ولم تقتصر هذه الحضارة على المدينة القديمة، بل كانت هناك مواقع أثرية هي الاخرى تستقبل الزائرين، منها مواقع كيش وبورسيبا، لكن الظروف السياسية والأمنية التي شهدها العراق بعد غزو الكويت، وما تلاه من تدهور في العلاقات الدولية، جعل بابل خالية تماما من السائحين.

والسؤال هو ماذا قدمت الحكومات المتعاقبة سواء على العراق أو المحليَّة في بابل، من أجل فتح ملف السياحة في المحافظة، ووضع الخطط الكفيلة لاستعادة ذلك الماضي، الذي كان يجمع الناس من شتى الكرة الارضية؟.


 

إرثٌ حضاري

يقول الكاتب والأديب عبد الامير خليل مراد  "في أحيان كثيرة نستغرب من الجمود، الذي يشهده الواقع السياحي في بابل، على الرغم من كونها ذات طابع تاريخي معروف لدى جميع الدول، وهي منارة حضارية يطمح كل المتشوقين للاطلاع على تاريخ العالم للتعرف عليها، ولهذا أرى بأننا لا نحتاج إلى صناعة تاريخ أو بناء حضارة، لأن هذين المحورين موجودان أصلا، وإنما نحن بأمس الحاجة إليه اليوم  هو بناء إنسان يؤمن بانه يعيش وسط هذه الحضارة، وبإمكانه أن يسهم في استعادة ألقها، عبر الاهتمام بالبنى التحتية والمشيدات، لأن السائح، حينما يأتي يحتاج إلى مواصلات وطرق وفنادق وأماكن ترفيهيَّة وأسواق، وللاسف المحافظة تفتقد إلى مثل هذه الخدمات".

 وأكد مراد أن صوت المثقف العراقي كان ولا يزال يهتف، من أجل الاهتمام بالمواقع الأثرية، وعدم تركها من دون استكشافات جديدة، لأن آخر عمليات التنقيب كانت في مطلع العقد الثمانيني، لأن الفرق الأجنبية غادرت مواقعها آنذاك، بسبب الحرب العراقية الايرانية، ولهذا لا بد اليوم من التعاقد مع شركات تنقيب أجنبية، من اجل الكشف عن مواقع جديدة، لأننا نعرف أن حضارة بابل تحتوي في مخزونها على العشرات من كنوز الحضارة والتاريخ.

ويرى الصحفي عبد الجبار القصاب أن من أولويات النهوض بقطاع السياحة في المحافظة، هو استثمار المواقع بشكل أمثل، سواء من قبل القطاع الحكومي أو الخاص، حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال القبول بغياب أبسط مقومات استقطاب السياح، سواء في المدينة الأثرية أو في مواقع أخرى، فمثلا حينما تتوجه إلى مدينة بابل الأثرية، لا تجد حتى (باركا نظاميا) لوقوف السيارات، وكذلك الحال بالنسبة إلى موقع بوريسبا الأثري، الذي كنا ننتظر أن يُحال إلى مستثمرين أجانب، من أجل اقامة جزيرة سياحية بالمنطقة المحيطة به، وذلك بسبب قربه من نهر الفرات من جهة، وامتداده باتجاه المدينة الاثرية من جهة أرى، وأن كل المقومات ترجح هذه الجزيرة على مواقع سياحية عربية. موضحا أن القرار الحكومي بما يخص الجانب السياحي ضعيفٌ جدا، ولا يرتقي إلى طموحات أبسط المواطنين، ذلك لأن غياب وزارة الثقافة  كعنصر حكومي فاعل، هو الذي تسبب بما يشبه تدهور الملف السياحي .


بيئةٌ متطورة

من جهته عبّر نقيب جمعية السياحيين في بابل فائز سعدون الراوي، أن الوضع العام لا يسمح بإيجاد بيئة جديدة متطورة للسياحة، سواء في بابل أو العراق بشكل عام، لأن توجه الحكومة هو توفير خدمات اخرى تخص حياة المواطنين، من اجل تقليل الاحتقان الجماهيري في الشارع، لأننا نعرف جيدا أن المواطن حاليا لا يبحث عن أجواء سياحية، رغم أنها تشكل اهمية للكثيرين، بقدر أنه يبحث عن وظائف ومياه صالحة للاستهلاك وكهرباء، ولهذا تجد أن التوجه وصناعة القرار بعيد كل البعد عن هذا الملف الحيوي. 

وأوضح الراوي أن هناك العديد من الأخطاء، التي وقعت فيها الحكومة المحلية، لعلها أبرزها مسك زمام الأمور في المدينة الأثرية، لكونها تقع بالقرب من المنتجع السياحي الذي أنشأه النظام السابق، مما ولد خصومة مع هيئة السياحة والآثار وصلت إلى دهاليز القضاء، حتى أن قضية الفندق السياحي الذي يقع على نهر الفرات، بقيت لعدة سنوات في نزاع مستمرعلى عائديته، ولهذا نرى أن الجانب السياحي لا يرتبط بجهة أو كيان وإنما هو ملف شائك جدا .

وتابع قائلا:

" نحن في جمعية السياحيين العراقيين التي أنشئت منذ مدة قصيرة، ما زلنا نطالب بأن يكون ملف السياحة بيد المختصين، الذين يعرفون كيف ينهضون به، وأن تكون الجهة القائمة عليه هي وزارة الثقافة والسياحة، لأن الآثار والتراث جزء من الموروث الثقافي العراقي، وليس ملفاً سياسيا يتدحرج بين أدراج حكومة وأخرى، ويخضع إلى مزاجات هذا وذاك، ما يحتم علينا أن نفتح آفاق تعاون مع العالم، كي نتمكن من الحصول على الخبرات والتجارب في كيفية تطوير حضارتنا .

الراوي لم يخفِ تخوفه من اندثار الواقع السياحي، نتيجة الاهمال الذي أصاب المواقع الاثرية، وعدم رغبة أصحاب القرار في استكشاف مواقع جديدة، تلبي رغبة شعوب العالم بالاطلاع على كل ماهو حديث وتاريخي، وفي المدينة الاثرية تحديدا هناك المئات من المواقع المطمورة تحت الأرض، التي تحكي آلاف القصص عن حضارة بابل القديمة. 

وتطرق فائز الراوي إلى الحضارة الدينية، وقال هي الأخرى في منزلق خطير، لأسباب تتعلق بغياب الدعاية والترويج لها، وضعف الإعلام المسلط عليها، وأخرى تتعلق في عدم ادراجها ضمن المزارات التي يستهدفها الزائرون من مدن إسلامية، لافتا إلى أن هذا الموضوع، تمّ التطرق اليه وزراء الثقافة السابقون عن هذا الملف، ورد علينا حينها أن المحافظة تفتقد إلى الفنادق السياحية للزوار، وأن القرار يتعلق بهيئة الوقف الشيعي، التي تقع عليها التعريف بالمزارات والمواقع والاهتمام بالبنى التحتية.

وطالب الراوي بضرورة ضبط عمل محال ومخازن بيع الخمور، التي أنشئت داخل المدينة الأثرية بقرار من محافظ بابل السابق، لأن غياب الرقابة سيضر بالمصلحة العامة، ذلك لأن غالبية الأسر تاتي إلى المدينة لغرض الاستجمام، وهي تخشى على أفرادها من التجاوزات التي قد تحصل، ما يثير الاستغراب الاهتمام بهذا الامرعلى حساب عمليات التنقيب عن الاثار.

الفنان غالب العميدي أكد أن النهوض بالجانب الفني سواء السينما والمسرح، ربما يسهم في استعادة ألق الحركة السياحية، ونحن شاهدنا كيف أن مهرجان بابل الفني استقطب آلاف المشاهدين، واذا كان أكثرهم عراقيين، فإننا نطمح أن يكون نصفهم أو أكثر من بلدان أخرى، منوها بأن استقطاب اسماء مشهورة، سواء على مستوى الغناء أو المسرح، سيؤدي إلى زيادة الزائرين، شريطة أن تتوفر البنى التحتية من أماكن الإقامة، حيث لا يمكن أن تبقى مدينة اثرية تعتمد بكاملها على عدة غرف أنشأها النظام السابق، وطالب العميدي بتحويل القصر الرئاسي إلى قصر للثقافة والفنون، ومتحفٍ تاريخي، حتى وإن كان يعود إلى حقبة مظلمة، لأنه أنشئ بأموال الشعب آنذاك وأقيم على أرضهم ايضا. 


ضعف القرار 

اما رئيس غرفة تجارة بابل المهندس صادق الفيحان، فقد اشار إلى جملة من الجوانب، لا بد من توفيرها من اجل استعادة الواقع السياحي في بابل وقال:

إنَّ "إقامة المعارض التجارية المشتركة مع دول أوروبية أو اسلامية على ارض بابل، كفيلةٌ بجذب الاستثمارات، ومن ثم التعريف بهذه الحضارة، ولقد حاولنا مرارا وتكرارا أن نقنع حكومة بابل المحلية ببناء جناح لمعرض دولي دائم لكن من دون جدوى، تارة يتحججون بوجود مواقع أثرية وتارة أخرى، يقولون إن القرار يعود إلى وزارة الثقافة .

ويتابع قوله:

" في الكثير من جولاتنا في أوروبا والأميركيتين لغرض توقيع اتفاقيات تجارية يسألوننا عن بابل، وعن كيش وعن بورسيبا ويتساءلون عن وجود مواقع جديدة مكتشفة في السنوات الماضية أم لا، ونجيبهم أن الحرب لم تترك لنا الفرصة، كي نقوم بذلك، إذن العالم يسألنا، ويريد أن يتواصل معنا، لكن كيف؟ هذا يتعلق بالقرار الحكومي الذي نراه ضعيفا ولا يلبي الرغبات". 

واقترح الفيحان تشكيل لجان مشتركة تدرس وتناقش الواقع السياحي، كي تصل إلى رؤى يمكن من خلالها، ايجاد الحلول التي تنهض وتعيد العراق إلى جادة الدول المستهدفة سياحيا، ولأن الملف يحمل في طياته جانباً اقتصاديا، ممكن أن يستفيد منه العراق في جذب الشركات والمستثمرين وتوقيع الاتفاقيات .

وبدورنا حاولنا الوصول إلى مصدر يتحدث لنا في هيئة السياحة والآثار عن هذا الموضوع، إلا أن الرد جاء كما توقعناه أن التقاطع الحاصل بين الحكومة المحلية ودائرة الآثار في الكثير من القضايا، هو السبب في بقاء واقع السياحة على ماهو عليه.