تأمُّلات في معيش أفضل

منصة 2023/02/02
...

 حازم رعد


هناك أشياء لا تستهويني أو تعجبني كفرد في مجتمع أو قل إنها لا تلفت انتباهي أساساً مثل «كتابات، وتصرفات من أشخاص وأشياء، وربما أشخاص قد يثيرون اشمئزازي» فما عليَّ فعله حقيقة هو الإعراض عن تلك الأشياء فقط، لا أوليها اهتماماً بمعنى أن الحل بالنسبة لي كفردٍ هو تخفيف الحمولة النفسيَّة عن ذاتي بالتخلي فقط، هذا هو الالتزام المطلوب مني عقلانيَّاً، ليس لي غير ذلك من ردات الفعل ازاء تلك الوضعيات، وغيري كذلك ربما لا تعجبهم بعض الأشياء والكتابات، وربما الأشخاص فما عليهم إلا أن يعرضوا عنها ولا يظهروا لها أيَّ اهتمام، ذلك فقط ما يمكن في ردات الفعل المبررة.

 المهم في الأمر أنّه ليست لي أو لأي فرد الوصاية على منع أي سلوك أو فكرة لا تتوافق معي. أجد أن مقاربة ذلك عقليّاً صعبة للغاية، تحقيق شيء من السلطة على الآخر بمعنى فرض آرائي ومتبنياتي وإيماني عليه أمر يدعو إلى التأمل والمراجعة. حتماً أنا لا امتلك الصلاحية مما يؤهلني لأكون وصياً على تصرفات ومتبنيات الآخرين قد يصدمني سائل من أين جئت بهذه الصلاحية، وكيف منحت لنفسك الحقك في «المراقبة والاعتراض أو العقاب». الأمر غاية في الأهمية والحساسية أيضاً، ويدعونا إلى أن نبحث فيه ونجتهد في ايجاد محتملات تسهم في حلحلة هذه الاشكالية التي هي احدى المشكلات التي تعصف بمجتمعاتنا وتولد الشيء الكبير من النفور والارباك، وقد تصل إلى الانفجار، فيما لو فرضت جهة ما «مهيمنة» وصايتها «النابعة من ايديولوجيتها» على أفكار وسلوكيات الآخرين. وقد نرى صراع ارادات يلوح في الواقع، ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى إعمام لغة الحوار وبسط طاولة النقاش بين الذوات كبديل عن التحيزات والاختزال المقصي للآخر الذي يحتكر الحق والحقيقة. 

إن مزيداً من الاسهامات العقلانية للتواصل والتفاهم بين الذوات ينعم مرونة المعيش ويفتح مساحات جديدة لتفهم ارادة الآخرين واحترام خياراتهم وهدم الغائهم، لأن لا حق لاحد في ممارسة القمع أو المنع ضد أحد، إلا إذا كان الفعل الصادر منه يضر بالمجموع أو يخل بالنظام، وعندئذ لا يسمح بذلك لأن حرية ارادة واختيار فرد ما تقف عند حدود اختيار وحرية الآخر. اعطي هنا مثالاً استحضره من النصوص الدينية المروية عن النبي محمد فيروى أنه قال في التعبير عن هذا المعنى [مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُّوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعاً] انظر كيف يستدل النبي “ص” على أهمية تقييد حرية اولئك الذين يتعدون في ممارساتهم حدودهم الشخصية فيضروا بالآخرين، وذلك هو المورد الداعي إلى شرعنة المنع في حق الآخر من استخدام ارادته في جلب الضرر على الآخرين “المجموع” في فضاء معيش واحد مانت السفينة معبر رمزي عنه. المهم في الأمر أن هناك فارقا كبيرا ومهما جداً بين أربع موارد. الأولى في ممارسة التعسف الفردي ضد الآخرين، وهو ما اطلقنا عليه فرض إرادة فرد أو جماعة ما “مهيمنة” لسلطتها على الآخرين وإرغامهم على الفعل أو الترك وفي ذلك قمع غير مبرر عقلانياً واخلاقياً، وأخرى في حال لو كان القمع وفرض الارادة يعود بالنفع على الجميع أو لا يتعلق الامر بالمنفعة، قد يشكل على ذلك أن إنسانا لا يريد منفعة نفسه، وهذا حق له، بل يتعلق الأمر بدفع الضرر عن الجميع بممارسة منع الفرد أو بعض الأفراد من ممارسة حريتهم “التي تعود بالضرر” على الجماعات الاخرى أو المجتمع بشكل عام، وهنا يكون المنع وفرض إرادة المجموع مبرر عقلياً بقصد النجاة للجميع ومنع الضرر عن الجميع. والثالث: هو المورد الذي يشرعن العنف في بعض الحالات ويعطي سلطة للجماعة “المتعاقدة اجتماعياً” مع السلطة لفرض القانون ومنع الضرر الذي يحدق بالجميع جراء ممارسات فرديَّة نابعة من حرية اختيار فرد أو جماعة تضر بحرية الآخرين وتقصي ارادتهم أو تعود على الواقع الاجتماعي بالضرر

والهلكة. 

 والرابع وهو مهم جداً وهو بروز لون من “تخادم المصالح” وهو الذي يؤدي إلى جمع شتات الفرقاء الذين قد يكونون مختلفين في اراداتهم وأفكارهم مما حاصله اختلاف أهدافهم، ولكن كانت المصلحة هي الأنموذج الذي حقق ذلك النوع من الارتباط والتفاهم بينهم، وهذا المبرر قد يصلح لضبط سلوك المجتمعات داخل المنظومة الاجتماعية، وكذلك قد يسهم في إحلال الاستقرار داخل التجمعات السياسية التي تقوم على تفهم المصالح المشتركة كالسلم الأهلي والحفاظ على النظام لمواصلة الحياة بشكل مناسب يليق بالإنسان، والأمر يتعدى الوحدات الاجتماعية الصغيرة لتتسع دائرة توازن المصالح المختلفة إلى الدول فمثلاً، أن توازن امتلاك السلاح عند مجموعة من القوى الدولية، هو ما يحدث السلام العالمي، وبسبب الخشية المشتركة من الصدام المروع بين تلك الدول الذي قد يؤدي إلى تهور أحداها أو بعضها لاستخدام أسلحة ذات التدمير الشامل مما يفتك بالبشرية هو المانع أو الحائل من دون وقوع الصراع وهو ما يسهم في احداث التوازنات بين تلك القوى المهيمنة، لاحظ كيف تتم عملية تأويل المصالح الناجمة عن الفعل ورد الفعل بين الفرقاء المختلفين، وكيف أن المصلحة هي من تحدد شكل الممارسة ونوع وكيفيَّة العيش وطريقة التعامل مع الآخر سواء كان فرداً أو جماعة أو قوى كبرى.