الصين وتحديات انخفاض أعداد السكان

بانوراما 2023/02/04
...

  جيسي يوينغ

  ترجمة: بهاء سلمان


ربما تكون الصين على مسافة بسيطة من فقدانها لمكانتها كأكثر بلد يسكنه الناس إلى الهند، بعدما تقلصت أعداد السكان فيها لأول مرة منذ ستينيات القرن الماضي، فقد انخفضت أعداد الصينيين سنة 2022 إلى مليار و411 مليون نسمة، متراجعة بنحو 850 ألف فرد عن العام الذي سبقه، وفقا لما أعلنه المكتب الوطني الصيني للاحصاءات في بيان موجز أصدره مؤخرا.

وشهدت سنة 1961 المرة الأخيرة التي قلت بها أعداد الصينيين، في أعقاب مجاعة أدت إلى مقتل عشرات ملايين الناس في عموم البلاد. أما هذه المرة، فتقف مجموعة من العوامل وراء الانخفاض المعلن، ومنها العواقب بعيدة الأمد لسياسة الطفل الواحد التي فرضتها الصين خلال الثمانينيات، وتغيّر الآراء تجاه الزواج والعائلة بين أوساط الشباب، وترسخ فكرة عدم المساواة بين الجنسين، وتحديات تربية الأطفال في المدن الصينية الباهظة التكاليف المعيشية.

ويحذر الخبراء، إذا بقي هذا الحال، من احتمال أن يؤدي هذا التوجه أيضا إلى فرض مشكلة لبقية العالم، مع لعب الصين لدور بالغ الأهمية في قيادة التنمية العالمية،لكونها ثاني أكبر اقتصاد عالميا. ومن المرجح أن تفاقم حالة انخفاض أعداد السكان من مشكلات البلاد، مع ازدياد أعمار القوى العاملة، وتكون عائقا للتنمية، لتضاف إلى مآزقها التي تجاهد للخروج منها معافاة بسبب جائحة كورونا.


لماذا يحصل هذا؟

بشكل جزئي، كان انخفاض أعداد السكان نتيجة طبيعية لسياسة الطفل الواحد، التي فرضت على الأزواج لفترة زادت عن 35 عاما إنجاب طفل واحد فقط؛ وتعرضّت النساء اللاتي لم يمتثلن لتلك السياسة إلى الإسقاط الإجباري وغرامات شديدة والطرد من العمل. ومع انتباهها لخطر انخفاض معدل الولادات في السنين الأخيرة، ألغت الحكومة القانون، حيث سمحت سنة 2015 للأزواج بإنجاب طفلين، ورفعتها سنة 2021 إلى ثلاثة. لكن تغيير السياسة وجهود حكومية أخرى، مثل عرض محفزات مالية، لم تأتِ بنتائج ملموسة، ولاسباب متنوّعة؛ فالتكاليف المرتفعة للمعيشة والتعليم والارتفاع  الصاروخي لأسعار الأملاك، كلها كانت من ضمن العوامل الرئيسية. ويواجه الكثير من الناس، وخصوصا سكان المدن، ركودا في الأجور وقلة فرص العمل وساعات عمل مرهقة تجعل مسألة تربية طفل واحد صعبة ومكلفة، ناهيك عن ثلاثة أطفال.

وتتفاقم هذه الحالة بسبب الأدوار المترسّخة للجنسين التي غالبا ما تضع ثقل الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال على كاهل النساء، اللاتي، ومع ازدياد تعليمهن واستقلالهن المالي أكثر من السابق، يبدين غير راغبات بتحمّل هذا العبء غير المتكافئ. كما تشير تقارير إلى تعرّض النساء للتمييز في العمل طبقا لوضعهن كزوجات أو أمهات، مع كراهية أصحاب العمل لدفع المال مقابل إجازة الأمومة.

وبدأت بعض المدن والمقاطعات تقديم إجراءات، مثل إجازة الأبوة وخدمات رعاية الأطفال الموسعة؛ غير أن العديد من الناشطين والنساء يشيرون إلى عدم كفاية هذه الإجراءات بشكل كبير. كما أن الإحباط تصاعد أثناء الجائحة، مع اضطراب أوضاع الجيل الشاب المحبط الذي خرجت أرزاقه ورفاهيته عن مسارها، بسبب السياسة المتصلّبة للبلاد بتصفير جائحة كورونا.


ماذا يمثل للصين؟

من المرجح أن يضيف انخفاض أعداد السكان مشكلات ديموغرافية تواجهها الصين مسبقا، فأعداد الكهول تزداد فعلا مع تقلّص القوى العاملة، مسلطة ضغطا هائلا على الأجيال الشابة؛ ويؤلف كبار السن حاليا نحو خمس سكان الصين، وفقا لتصريحات رسمية. ويحذر الخبراء من توجه البلاد نحو مسار مماثل لليابان، التي دخلت ثلاثة عقود من الركود الإقتصادي منذ بداية تسعينيات القرن الماضي توافقت مع تركيبتها السكانية.

“يدخل الاقتصاد الصيني مرحلة تحوّل حرجة، مع عدم قدرته بعد على الاعتماد على قوى عاملة وفيرة الأعداد، ولها قدرة تنافسية من حيث الكلفة لقيادة التصنيع والتنمية،” كما يقول “فردريك نويمان”، خبير الشؤون الاقتصادية الآسيوية لدى مصرف اتش اس بي سي، ويضيف: “مع بدء انكماش توريد العمالة، ستكون تنمية الإنتاجية بحاجة إلى حالة إنتقاء لإدامة الوتيرة المسرعة للاقتصاد بغية التوسع”.

ويعاني اقتصاد الصين من الأساس من مشكلة، حيث ارتفع النمو فيه بنسبة ثلاثة بالمئة فقط خلال سنة 2022، التي توصف بأنها أسوأ السنوات في الأداء خلال ما يقارب من نصف قرن، وذلك نتيجة لأشهر طويلة من حالة إغلاق كامل بسبب الجائحة، والانكماش التاريخي لسوق الأملاك. ومن الممكن أن تعمل القوى العاملة المنكمشة الأعداد حالة استعادة أكثر تحديا مع استئناف الصين للسفر نحو الخارج، والتخلّي عن الكثير من التقييدات الصارمة، التي وضعتها خلال السنين القليلة الماضية.

هنالك مضامين اجتماعية، أيضا، فنظام الأمن الاجتماعي للصين سيكون من المرجح عرضة للضغط والإجهاد مع تناقص أعداد العاملين، الذين سوف يمولون أمورا مثل الرواتب التقاعدية والرعاية الصحية، مع ارتفاع الطلب على هذه الخدمات بسبب شيخوخة السكان. وسوف يكون هناك أعداد أقل للاعتناء بكبار السن، لأن الكثير من الشباب سيكونون مسبقا في ميادين العمل لدعم آبائهم وأجدادهم كذلك.


ما هو الموقف للعالم؟

مع إدراكنا لدورها القيادي في الاقتصاد العالمي، من المحتمل أن تمتلك تحديات الصين آثارا على بقية العالم. وقد أوضحت جائحة كورونا كيف أن المشكلات الداخلية للبلاد بإمكانها التأثير على تدفق التجارة والإستثمار، مع إرباك سلسلة توريد السلع بسبب فرضها لحالة الإغلاق التام والتشديد على الحدود. ولن يتعلّق الأمر فقط بإبطاء وتيرة الاقتصاد الصيني وأثره على التنمية العالمية، فمن الممكن أن يهدد طموحات الصين بالتغلّب على الولايات المتحدة في أخذ مكانتها كأكبر اقتصاد عالمي.

“القدرة المحدودة للصين في الاستجابة لهذا التحوّل في التركيبة السكانية سوف تقود على الأرجح إلى تنمية بوتيرة أبطأ خلال العشرين إلى الثلاثين السنة القادمة، ويؤثر سلبا في قدرتها بالتنافس على المستوى الدولي مع الولايات المتحدة،” بحسب مقالة صادرة في آب الماضي عن مركز الدراسات الستراتيجية والدولية المتّخذ من الولايات المتحدة مقرا له.

ومن المرجح أيضا أن تفقد الصين مكانها كأكبر دولة بأعداد السكان وتتنازل عنه لصالح الهند، التي تتصاعد فيها كل من أعداد السكان ووتيرة الاقتصاد. يقول “يي فوكشيان”، المتخصص بدراسة التركيبة السكانية الصينية بجامعة ويسكونسون ماديسون، في تغريده له على تويتر: “الهند ستكون الرابح الأكبر من الأمر.” مع هذا، وبينما يشير يي إلى أن اقتصاد الهند يوما ما ربما سيتجاوز الاقتصاد الأميركي، فلا يزال عليها أن تتحرك باتجاه ما لتحقيق ذلك، فالهند حاليا هي خامس أكبر اقتصاد عالميا، متجاوزة المملكة المتحدة العام الماضي، وأعرب بعض الخبراء عن مخاوفهم من أن البلاد لا تخلق ما يكفي من فرص العمل لتساير حجم قواها العاملة المتزايدة بالاتساع.

مع ذلك، لا يزال بعض الباحثين يتحدثون عن إحتمال وجود جانب إيجابي في الأنباء القادمة من الصين. تقول “ماري غالاغر”، مدير المعهد الدولي في جامعة ميتشيغان: “بالنسبة لكل من التغيّر المناخي والبيئة، تعتبر الأعداد الأقل للسكان أمرا نافعا وليس لعنة.” أما “بيتر كالموس”، عالم المناخ لدى وكالة ناسا، فيرى أن تناقص أعداد السكان لا ينبغي أن ينظر إليه “كمسألة مفزعة”، مشيرا بدلا من ذلك إلى كونه “يسرّع بشكل مضاعف من ظاهرة الإحترار العالمي وفقدان التنوّع الإحيائي”.


ماذا تفعل الحكومة؟

كثف المسؤولون الصينيون جهودهم لتشجيع الأسر الأكثر عددا، بضمنها عبر خطة لوكالة متعددة تمَّ إطلاقها العام الماضي لتعزيز حالات إجازة الأمومة، وعروض لخصم الضرائب، علاوة على امتيازات أخرى. وتعهّد الرئيس الصيني شي جيان بينغ في تشرين الأول الماضي “بتحسين ستراتيجية تطوير أعداد السكان” وتخفيف الضغوط الاقتصادية على الأسر. يقول الرئيس: “سوف نؤسس لنظام سياسة يعمل على تعزيز معدلات الولادة، ويخفض تكاليف الحمل والولادة وتربية الأطفال وتعليمهم المدرسي. سوف نتابع ستراتيجية وطنية استباقية للتعامل مع حالة شيخوخة السكان، مع تطوير برامج كبار السن والخدمات المقدمة لهم، ونوفر خدمات أفضل للكهول الساكنين بمفردهم”.

وتعمل بعض المناطق حتى على توفير محفزات مالية لتشجيع زيادة الولادات، فقد أعلنت إحدى القرى الواقعة جنوبي مقاطعة غواندونغ سنة 2021 بأنها ستدفع للسكان الدائميين، الذين لديهم أطفال بعمر يقل عن السنتين ونصف مبلغا يصل إلى 510 دولارات شهريا، الأمر الذي من الممكن أن يصل بإجمالي المبلغ إلى أكثر من خمسة عشر ألف دولار للطفل الواحد. وقدمت مناطق أخرى إعانات عقارية للأزواج الذين لديهم عدة أطفال.

بيد أن هذه الجهود لا تزال ترتقب النتائج المرجوة منها، مع إشارة الخبراء والسكان إلى ضرورة فعل الكثير جدا من الإصلاحات الشاملة. وبعد انتشار الأخبار الأخيرة حول تشجيع زيادة الولادات، انطلقت على منصات التواصل الاجتماعي الصينية تعليقات ترد على ما يدور في أذهان الناس، ومنها: “لأجل تشجيع إنجاب الأطفال، ينبغي عليكم بداية وضع حلول لهموم الجيل الصاعد من الشباب.” وكتبت مستخدمة أخرى للمنصة التالي: “رواتبنا متدنية جدا، بنفس الوقت الذي ترتفع فيه بدلات الإيجار لمستويات عالية جدا، كما إن الأعباء المالية شديدة للغاية. زوجي المستقبلي سوف يعمل بوقت إضافي لغاية الساعة الثالثة فجرا كل يوم لغاية نهاية السنة. أمر بقائي على قيد الحياة وصحتي هما من المشكلات القائمة مسبقا، فكيف سيكون الحال مع الإهتمام بالأطفال.”

وكالة سي أن أن الإخبارية الأميركية