العالم يحتاج الى الكروم والليثيوم وهما وفيران في أفغانستان

بانوراما 2023/02/05
...

نبيه بولص 


ترجمة:  أنيس الصفار                                            

في مكانٍ ما من جبال لوغار المطلة على الطريق السريع المؤدي الى كابول سارَ أسد الله مسعود بخطى ثقيلة يرتقي الصخرة العالية التي يقارب ارتفاعها بناية بأربعة طوابق. أمامه ترامى نمط من حجارة ذات لون رمادي موحد، باستثناء خط بين التقاء كتلتين مكون من صخور داكنة اللون تكاد تبلغ حد السواد.

قال: “انظر هناك.. هل ترى ذلك الخط الأسود؟ هذا هو حجر الكرومايت؟”

دوى في البعد صوت انفجار مكتوم فرفع مسعود رأسه ولكن لم يبدُ عليه القلق. قال: “هذا لا شأن له بالقتال بل نحن نقوم بالتعدين بطريقة الوجه المفتوح، حيث نضع المتفجرات ونمضي منتقلين من تل الى تل.”


مسعود، ذلك الرجل المتحفظ ذو النظارات الملونة والشعر البني الكثيف الذي يغطي رأسه مثل قبة، هو مدير الموقع في منجم “موغولخيل” حيث يستخرج العمال الكرومايت وهو الخام الذي يستخلص منه معدن الكروم الذي يعدُّ مكوناً أساسياً في صناعة الفولاذ المقاوم للصدأ. عملية التعدين هذه هي واحدة من عمليات عديدة تجري في محافظة لوغار شرق افغانستان واماكن اخرى من هذه البلاد التي يعتقد انها تتربع على قمة خزين عظيم من الرواسب المعدنية الى حد ان طالبان تلوح بأنه سيكون العلاج الشافي لجميع أمراض افغانستان الاقتصادية.


الثروات الجوفية وتسابق القوى الأجنبية

هذه الثروات الجوفية الطائلة المرتجاة جعلت قوى اجنبية مثل الصين وروسيا وإيران تتسابق للحصول على حصة، ولكن ليس الولايات المتحدة التي رفضت رسمياً التعامل مع الحكام الجدد لما صار يعرف باسم “إمارة افغانستان الاسلامية” الذين تولوا المقاليد بعد انسحاب القوى الغربية في العام الماضي من “جمهورية افغانستان” حينها. هذا الموقف أفسح المجال أمام دول معادية للولايات المتحدة، الى جانب قلة من دول صديقة لها مثل تركيا وقطر، لاستغلال خزين عملاق من الموارد الطبيعية، كما اثار القلق بين المسؤولين الأميركيين من أنْ يتمَّ استبعادهم.

الى جانب الكرومايت تحتضن الأرض هنا عروقاً غنية من الرصاص والزنك والنحاس والحديد، وكذلك معادن أكثر ندرة مثل الذهب والزئبق واليورانيوم وربما ايضاً أضخم تراكمات رسوبية في العالم من الليثيوم وهو عنصر أساسي في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية الذي يشتد الطلب عليه الآن أكثر من أي وقتٍ مضى.

تقدر التقييمات مخزونات أفغانستان، بما فيها تلك التي قدّرت استقرائياً من خلال بيانات عمليات المسح، ما بين ترليون دولار وثلاثة ترليونات دولار. يحذر بعض الخبراء من أنَّ هذه الأرقام قد تكون مبالغاً فيها لكنَّ العائدات المرتقبة رغم هذا يمكن أنْ تحدث نقلة جوهرية في أوضاع أحد أشد بلدان العالم فقراً.

لقد اعتمدت حكومة “طالبان” حتى الآن على معدات بسيطة وبنطاق ضيق للقيام بما يسمى التعدين الحِرَفي، إلا أنَّ تطلعاتهم الطموح للاستغلال بنطاق صناعي سوف تتطلب مساعدة من جهات خارجية.

بعض الدول بدأت منذ الآن بشن موجة من العروض المغرية، ففي شهر أيلول أعلن وزير التجارة في حكومة طالبان صفقة أولية مع موسكو لشراء البنزين والديزل والغاز الطبيعي والقمح من روسيا بأسعارٍ مخفضة، ولوح بأنَّ أفغانستان سوف تفسح بالمقابل منفذاً الى مواردها المعدنية كسدادٍ مقابل بالمثل. كذلك نوّه المسؤولون الايرانيون في الشهر الماضي بأنَّ إحدى الشركات الايرانية سوف تباشر قريباً أعمال التعدين في محافظة غور وسط أفغانستان لاستخراج الرصاص والزنك.

إلا أنَّ أكثر المتوددين الى أفغانستان حماساً هي الصين. فأكثر من نصف السيارات الكهربائية في العالم يباع في الصين وهذا يجعل شهية هذه الدولة لليثيوم والكوبالت تنطلق الى عنان السماء. كذلك تبقى الصين زبوناً نهماً للحديد والفحم وسلع أخرى غيرهما.

لهذا السبب أصبح مشهد سيارات الدفع الرباعي المصفحة وهي تقل مسؤولين ومقاولين صينيين لمرة في الأسبوع على الأقل أكثر تردداً خلال السنة الماضية على مقر وزارتي المناجم والنفط الأفغانيتين في جنوب شرقي كابول. يقول مسؤولو طالبان إنَّ الشركات الصينية تأتي لتطرح عشرات العروض طلباً لامتيازات التعدين، بما فيها “مجموعة التعدين الصينية”، وهو تكتل عملاق فاز بالامتياز في العام 2007 للعمل في “ميس آيناك” في اقليم لوغار، وهو أحد أكبر مناجم النحاس وأعلاها جودة في العالم. (ولو ان عمليات الاستخراج لم تبدأ بسبب احتواء الموقع على بقايا اثرية واشياء أخرى).

يقول حافظ رحمة الله احمد الذي يتولى إدارة مكتب وزارة المعادن في لوغار: “الصين بلد كبير وهي جارتنا لذا من الطبيعي أنْ نرى اهتماماً أشد من جانب الشركات هناك.”

رغم هذا يقول حافظ وسواه من المسؤولين إنَّ طالبان تفضل التعامل مع الشركات الغربية والروسية لأنَّ إمكانياتها أكبر. يضيف حافظ ان فرق التنقيب الروسية قد قامت مؤخراً بزيارات لإقليم لوغار لأخذ عينات من الصخور. 


موقف الولايات المتحدة

دفع تعطش الصين الى خزين المعادن الجوفية ذات القيمة المرتفعة ببعض القادة في الولايات المتحدة الى الدعوة لاتخاذ التعدين سبيلاً لإعادة التعامل مع افغانستان وحكومة طالبان من أجل تحقيق الفائدة المزدوجة المتمثلة بمساعدة الأفغان على بناء اقتصادهم وفي الوقت نفسه تزويد شركات الطاقة النظيفة في اميركا بالمواد الخام تشتد الحاجة إليها.

في شهر آب الماضي كتب النائب الديمقراطي “جيك اوشنيكلوس” مقالة رأي الى موقع “فوكس نيوز” قال فيها: “اعظم هدية نقدمها إليهم لن تكون مجرد مساعدتهم، بل تمكينهم اقتصادياً”. مضيفاً أنَّ وزير المعادن في طالبان قد عقد لقاءً افتراضياً عبر الانترنيت مع عددٍ من الشركات الأميركية هذا العام، والتعدين سيكون الخطوة الأولى، كما يقول اوشنيكلوس.

هذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها جهات خارجية ذات اهتمام، بما في ذلك الولايات المتحدة، ان تطور افغانستان لجعلها “كلوندايك” آسيا الوسطى، حيث أشارت أعمال مسح مبكرة أجراها السوفييت في سبعينيات القرن الماضي الى المخزونات المعدنية الضخمة في جوف الأرض إلا أنَّ ذلك كله طواه النسيان تقريباً في خضم الفوضى التي أعقبت انسحابهم من أفغانستان ما بين عامي 1988 و1989.

بعد ثلاث سنوات من الغزو الأميركي لأفغانستان في 2001 أجرت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية أعمالها الاستكشافية الخاصة مستعينة بالخرائط الروسية التي احتفظ بها الجيولوجيون الأفغان وخلصت الى النتيجة نفسها. وفي العام 2009 قامت فرقة خاصة مكلفة بتطوير فرص العمل في أفغانستان بمتابعة البيانات وقررت أنْ تتولى تطوير قطاع الصناعات الاستخراجية مستندة الى الرأي بأن حركة التمرد المعادية يمكن إضعافها من خلال توفير فرص العمل وثني الناس عن الانضمام الى المتشددين.

أنفقت الولايات المتحدة نصف مليار دولار في محاولة تطوير قطاعات النفط والغاز والصناعات المعدنية في أفغانستان، ولكن الافتقار الى البنى التحتية واستمرار القتال قوضا أية فرصة للتقدم. جميع المشاريع التي كانت تتابعها قوة العمل لم تكتمل وفقاً للتقرير الذي أصدره المفتش الخاص الأميركي لأفغانستان.


الفرصة سانحة الآن لتطوير التعدين

لأسبابٍ شتى لم يكن الوقت يوماً أكثر مواتاة لتطوير هذا القطاع منه الآن. فمن الأمور التي تحسنت بشكلٍ واضحٍ تحت حكم طالبان هو الأمن، إذ إنَّ معظم العمليات القتالية قد خفت حدتها فسمح هذا للشاحنات بأنْ تنشط في نقل الحمولات ليلاً ونهاراً طيلة أيام الأسبوع من دون توقف وبلا خشية من اندلاع اشتباك هنا وآخر هناك أو من الطرقات المبذورة بالمتفجرات، ذلك الخطر الذي كان ماثلاً على الدوام في أيام الجمهورية. جميع مواقع التعدين اليوم، حتى النائية منها، باتت تنعم بسلام نسبي.

يقول محمد الله عمري، وهو مهندس له من العمر 30 عاماً يعمل في شركة “ستانا بابا للتعدين” التي تدير منجم “موغولخيل”: “في الماضي كنا نتلقى مكالمات من مجهولين تتوعدنا بالويل إنْ لم نترك العمل”. ذلك أنَّ المنجم المذكور يقع غير بعيدٍ عن عددٍ من المعاقل المعروفة لجهات موالية لطالبان في أيام الحرب، الأمر الذي كان يجعل رحلة الأميال السبعة بين موقع العمل والدائرة الرئيسية محفوفة بالمخاطر. كذلك ارغمت الشركة على عقد اتفاقٍ مع المتشددين المسلحين.

يقول عمري: “في السابق كنا نتعامل مع حكومتين، حكومة الجمهورية وحكومة الإمارة، وهذا يعني عقدين. أما الآن فهناك حكومة واحدة لا غير.”

الإجراءات البيروقراطية هي الأخرى أصبحت أسرع، كما يقول، فالمعاملات التي كانت تستغرق ثلاثة أشهر صارت تنجز في أقل من أسبوعين.

كذلك ركزت طالبان على تسهيل حركة النقل، كما يقول “ديفد مانسفيلد” الخبير في الاقتصاد الأفغاني، حيث حولت اتجاه الحركة التجارية صوب المعابر الحدودية النظاميَّة وشددت الإجراءات الأمنيَّة على امتداد الحدود للتضييق على عمليات التهريب وتقليل عدد نقاط السيطرة.

الأمر الحاسم كان قيام الجماعة بحصر مركزية الواردات المتأتية من الضرائب وبذلك استبعدت امراء الحرب الفاسدين والفصائل الاخرى، كما اعادت تقييم العقود المبرمة سابقاً ورفعت قيمة رسوم التعدين كما ضغطت على بعض الشركات لجعلها تدفع مقدما.

 هذه الستراتيجية اصابت شيئاً من النجاح، كما يقول الخبراء وجماعات الرقابة المالية، ويقدر خبير التعدين الافغاني جاويد نوراني ان طالبان كانت تجني اكثر من مليار دولار سنوياً بصيغة ضرائب على التعدين. ويقول مانسفيلد ان الحكومة قد رفعت صادراتها من الفحم الى باكستان بمقدار الضعفين خلال هذه السنة مقارنة بالسنة السابقة منتهزة فرصة ارتفاع الاسعار بسبب الحرب في اوكرانيا.


حركة طالبان وملاحقة الفساد والاحتيال

يقول مانسفيلد: “كل ما سبق يوضح ان طالبان قد امسكت بزمام صناعة التعدين وانها أخذت تسلط اهتمامها بشدة على كسب الاموال عاجلاً وبلا توانٍ.”

يشمل الأمر اجتثاث الفساد المتغلغل الذي كان ينخر هذه الصناعة، بما في ذلك المسؤولون ومقربوهم وأمراء الحرب والمقاولون الذين يعملون تحت أسماء وعناوين لا تلبث ان تتبخر ما بين ليلة وضحاها وحتى عملاء تابعون للقوات الخاصة الأميركية ومقاتلو طالبان نفسها.

كانت الشركات تستخرج كميات أعلى بكثير مما تسمح به التراخيص الممنوحة لها، او تورد في تقاريرها بانتظام أرقاماً أوطأ لما تصدره في عملية يمكن وصفها بأنها غسيل للمعادن. على سبيل المثال كان كرومايت مناجم لوغار، المعروف بنقائه العالي، ينقل الى محافظة خوست الشرقية وهناك يؤشر بأنه خام واطئ الدرجة لكي تفرض عليه ضرائب مخفضة، ومن بعد ذلك يرسل عبر الحدود الى باكستان حيث يجري خلطه ثم يؤشر بأنه خام باكستاني ويشحن الى الصين، كما يقول مانسفيلد.

يمنع القانون الأفغاني المسؤولين رفيعي المستوى وأعضاء المجلس التشريعي وعناصر الأجهزة الأمنية من استصدار حقوق التعدين، بيد أنَّ هذا لم يمنع السياسيين من المحاولة. فشركة “ستانا بابا للتعدين” مثلاً كان مؤسسها عضو برلمان عاملاً في المجلس.

يقول نوراني: “في النظام السابق كان الجميع يخرجون بالفوائد، بدءاً من رئيس الجمهورية نزولاً الى معظم صغار موظفي الكمارك المرابطين على الحدود، فكانت لكل من هؤلاء حصته”.


مشكلات بسبب أزمة العقوبات

يضيف مسعود، مدير موقع منجم “موغولخيل” والمحلل السابق في الحكومة الذي فقد منصبه بسقوط نظام الجمهورية الأفغانية في آب 2021، أنَّ المشكلة التي يواجهها قطاع التعدين حالياً هي ذاتها التي يعاني منها الاقتصاد الأفغاني برمته، وهي حالة العزل المفروضة على طالبان كنظامٍ منبوذٍ عالمياً. فالعقوبات المفروضة على الجماعة قد حالت بين هذا البلد والنظام المصرفي العالمي وبذلك تحولت أبسط عمليات الدفع الى معضلات لوجستية. فالأموال تمر عبر ألمانيا ودبي وباكستان قبل أنْ تعبر الحدود أخيراً “في أكياس متخمة بالنقد”.

يمضي مسعود فيقول إنَّ الحصول على المتفجرات لأغراض التعدين هو الآخر يمثل مشكلة لأنَّ طالبان ليست معترفاً بها كحكومة شرعية. كذلك تبقى البنى التحتية المتردية، سواء كانت الكهرباء او الطرقات، عقبة في وجه تحويل التعدين على نطاق واسع الى عمل تجاري مربح.

يقول “شو يونغبياو” مدير مركز ابحاث افغانستان بجامعة لانشو في الصين: “بموضوعية، أقول إنَّ أياً من المعادن الموجودة في أفغانستان لا يمكن عده صعب التعويض أو حتى اقتصادياً نسبياً او منخفض الكلفة.”

كل هذا لم يحد من اهتمام الشركات الصينية بالليثيوم الأفغاني، حيث أفادت وسائل الاعلام الرسمية الصينية في شهر نيسان بأنَّ أكثر من 20 شركة مملوكة للدولة أو للقطاع الخاص قد تحركت لجمع المعلومات عن إمكانيات الاستخراج، لكن معظمها انسحب كما يقول “شو” بعد القيام برحلات ميدانية اطلعوا من خلالها على التحديات بشكل مباشر، وقد سبب ذلك تأزماً بينهم وبين مضيفيهم حكومة طالبان.

الليثيوم الآن خارج متناول اليد كما يقول المتحدث باسم وزارة المعادن الافغانية عصمت الله برهان مستشهداً بالتعقيدات المرافقة لعملية الاستخراج. ثم يمضي مستطرداً: “لدينا معادن أخرى يمكننا التحدث عنها أولاً، كالفحم والكرومايت والنفرايت والاحجار الكريمة والرخام. وطالما أنَّ الليثيوم مادة تحتاج إليها جميع الدول في العالم فبوسعنا تركها حالياً حتى تنفد تلك أولاً على المدى البعيد”. مضيفاً أنه لا يتوقع ان يبدأ منح امتيازات الليثيوم قبل العام 2032.

رغم هذا الأمر القضائي يقول المراقبون إنَّ كميات صغيرة من الليثيوم لا تزال تخرج للتصدير، الى جانب زيادة ملحوظة في كميات الحديد والفحم.

يقول نوراني: “يحتل التعدين مدى واسعاً من اهتمام طالبان، وهو المصدر الوحيد لديهم للحصول على الموارد في هذه المرحلة لذا تراهم يصدرون المزيد دون أنْ يكونوا على علمٍ دقيقٍ بما يبيعون.”

عن صحيفة “لوس أنجلس تايمز”