كلٌ يركضُ خلف الآخر، أنا وراء الكلب، والكلبُ وراء القطٍّ، والقطٌ وراء الفأر .
كيف كان ذلك؟ ولماذا؟
نعمْ، حدث هذا ذات يوم، حين لبستُ وجه الأسد، في قناع مرعب، من ورق ملوّن، مكشراً عن أنيابي، زأرتُ، زأرتُ بأعلى صوتي، وصحتُ بوجه كلبي الصغير، مداعباً إياه :
أغرب عن وجهي يا هذا..؟ .. أنا ملكُ الغابة، وسيدُ الحيوانات جميعها، ألا تخشاني حقّا؟ سأفترسك حيّاً، إنْ لم تهربْ مني فوراً؟
حدّق في القناع قليلاً ثم فرّ الكلبُ خوفاً مني، ركضَ سريعاً، ظنّاً منه أني فعلاً أسدٌ حقيقيٌ، بشكلي وقناعي المُخيف.
أخذَ يعدو بخفة أمامي، هارباً يعوي، حتى لاحَ في الأفق القريب، قطٌ أبيض يمشي ويقفزُ، هنا وهناك على جانب الطريق، حسب القطُّ ان الكلبَ الهاربَ مني متجهٌ نحوه يُلاحقهُ، يُريدُ أنْ يأكله، فراح يجري هو الآخرُ مَرعوباً، لا يكفُ عن الركض، أمتاراً وأمتاراً، يموء بصوته المرتفع الذي ملأ المكانَ ضجيجاً، ما أنْ سَمعه فأرٌ قريبٌ في الجوار حتى وَثبَ مذعوراً، وأخذَ يركضُ أيضاً، مُنطلقاً الى الأمام، مُعتقداً أن القطّ المسرعَ صَوبهُ يُطاردهُ، وبين خطوة وأخرى سينهشه، وينال منه على عجل، ولن ينجو منه أبداً، فيما لو تباطأ قليلاً، أو تكاسل لحظة عن الهزيمة والهروب.
كان المشهدُ مثيراً جداً، كلٌ يعدو خوفاً من الآخر، الفأرُ أمام القطٍّ ،والقطُّ أمام الكلب، والكلبُّ أمامي.
لا أحد يعلمُ أدنى شيء عن سرّ اللعبة سواي، توقفتُ أخيراً لألتقط أنفاسي، رفعتُ قناع الأسد، وكشفتُ عن وجهي الحقيقي، مبتسماً وضاحكاً، ملوّحاً لكلبي المفزوع الذي التفت مستديراً نحوي، شيئاً فشيئاً، اقترب مني حتى تعرفني، وعاد الى جواري يهزُّ لي ذيلَه القصير، فرحاً، سعيداً، آمناً بقربي .
فيما فرّ القطُ الأبيض يميناً، وهرب الفأرُ يساراً، كلٌ منهما الى جهة مختلفة مجهولة، من دون أنْ يعرف منهم غيري، ما الذي كان وراء ما حدث أصلاً؟
نعم، إنها لعبةُ قناع الأسد، ما أحلاها من تسلية، كانت مبهجة وممتعة للغاية حقّاً.
بلبل من قماش وخزف
عندنا كلب وغزال وبلبل وأرنب نلعب بها يومياً معاً، نحبها جميعاً، لكن البلبل كان يعجبنا أكثر، لأنه يفعل أشياءً لا يستطيع أحد القيام بها من الحيوانات الثلاثة الأخرى، الموضوعة معه على حافة النافذة المطلة على حديقة دارنا .كان البلبل مصنوعاً من القماش والخزف، يغرد بصوت جميل، فيملأ المكان بهجة وفرحا بألحانه العذبة، كلما نصفق له أو يسمع أية حركة أو صوتاً قريباً في الجوار .
نعم، إنه لا يكف عن إطلاق تغريداته في الليل والنهار، حين ترن ساعة البيت الدقّاقة بين فترة وأخرى.
ذات مساء في الشتاء، أخذ يغرد ويغرد أكثر، رافعاً صوته، من دون توقف أو انتهاء، فهرعنا اليه، مسرعين نستطلع الأمر، ضحكنا معاً، بعد أنْ عرفنا انه كان يسمع حبات المطر، وهي تتساقط قربه، خلف زجاج النافذة.
وفي أحد الأيام التالية سكت البلبل صامتاً، أصبح من دون حراك، لم يعد قادراً على التغريد والغناء، ولو مرة واحدة في الأقل، أطلقنا أصواتاً متعددة، صفقنا جميعاً، ولم ينطق بأدنى شيء ..
قلت: هنالك سبب ما دون شك ..
ردّت أختي الصغيرة بحزن: مسكين قد يكون جائعاً..
أجاب أخي الأصغر بألمٍ: ربما هو عطشان أو مريض ..
ضحكت أمي، ولاذت بالصمت ليجيب أبي مبتسماً: إنه مريضٌ فعلاً، وأنا الطبيب المعالج.. وفي غضون لحظات، اختفى به جانباً وعاد بالطائر حيّاً، مغرداً بصوته العالي، وأخذنا نصفق له مرة وأخرى، فيطلق ألحانه بلا انقطاع، ونضحك مسرورين بصوته الجميل.
وقبل أنْ نتساءل لماذا كان البلبل ساكتاً، وما هو السبب وراء ذلك، قال أبي: لقد كان بحاجة الى بطاريات كهربائية
جديدة..