عدنان أبوزيد
في مقال سابق، قلت إن الخطاب الشعبوي في العراق يتوغل، ويتبناه الزعماء العراقيون، لاستعادة التعبئة "العمومية"، بعد أن دفعهم عدم الإنجاز وشيوع الفساد، وعدم التقدم في قطاع الخدمات، الى التماهي مع العواطف الجمعية، والتخلي عن الترفع النخبوي لصالح حضور شعبي مباشر، يسكّن النقمة ويتجاوز احتقان العلاقة.
يتفاقم الخطاب الشعبوي في العراق، بشكل واضح، وأصبح ضرورة في سياسات الأحزاب وتصريحات السياسيين، الذين استبدلوا أولويات البرامج، والأرقام والبيانات، التي رسمتها النظريات، وأصحاب الاختصاص والخبراء، والمخيال السياسي، بإجراءات سريعة، وترقيعية تلامس قاع المشاعر المكتظّة بالنقد والتجريح، وهو ما حوّل المواطن من متلق إلى مشارك في صناعة القرار والمشهد.
بدأت النخب السياسية العراقية منذ ادراكها، تأزم العلاقة مع الجماهير، تركز على مداراة عواطف الأمة، لا عقولها، وتصدر خطاب تهدئة، ودعوات اصلاح، من دون مقاربة واضحة للمشاكل، وحلها بشكل عملي، بعدما غابت الفرص المتتالية بسبب تبذير الثروة، واستفحال الإرهاب، وانحسار الثقة بين المواطن والدولة.
الخطاب الشعبوي في العراق، ليس بجديد، واذا كانت النخب السياسية بعد 2003، اكتشفته متأخرا، فان حقبة ما قبل 2003، وزعيمها، استخدمته بشكل واسع عبر الاستثمار في الجهل الذي يستوعب وسائل الخطاب، والتهييج، الذي يستنفر العاطفة الجمعية لسوْق الناس الى الحروب، والتصفيق للنهج الاستبدادي، والحفاظ على مزاجٍ عام يخضع لإرادة الحزب الواحد.
وإذا كانت أحزاب دكتاتورية، في العراق والعالم العربي، أذْكت مشاعر الناس، بمفردات الخطاب الشعبوي، الحماسية، في القومية، والتحرير، والعروبة، على مدى عقود، فانّ النخب العراقية بعد 2003، عدّلت على الخطاب الشعبوي بمفردات توافقية مع المرحلة، التي تصاعدت فيها الطائفية، والإرهاب، ونقص الخدمات.
وفي كلا الحالين، في حقبتي الدكتاتورية والديمقراطية، كان الخطاب المرسل الى الجمهور، غامضا وعاطفيا، وتبريرا للأخطاء والانتكاسات، ديماغوجيا ومضلّلا، يثير الحماس المطلوب بإيحاءات وطنية واجتماعية لصالح هذه الجهة او تلك، من دون تنفيذ لمشاريع الحلول.
في حالة العراق تحديداً، لم يتلقّف السياسيون فقط كرة الخطاب الشعبوي، بل شاركهم فيها أيضا الكثير من المثقفين، والفنانين، والمفكرين، والمنظرين، بعدما ادركوا انّ الترفع في الخطاب القائم على شروط مهنية وموضوعية صرفة، لم يعد يكسب الجماهير، وهو أمر يتفّهمه خبراء المجتمعات والسياسة، فكان من نتائج ذلك، تسيّد الثقافة الشعبية والسوقية ومشتقاتها على ثقافة النخبة، والتنظير الاكاديمي، لترسم الشعبوية ملامحها وما يميزها، من اسفاف ومباشرة في الطرح، في برامج التلفزيونات، وفي المسارح، والغناء، وفي المنابر الدينية، أيضا.
سنكون أقل اندهاشا، إذا ما عرفنا ان الشعبوية في الكثير من البلدان، حتى دول الديمقراطيات العريقة، توصف بانها عملية احتيال على مشاعر الناس، وعقولهم، ففي الإكوادور، وفق موسوعة ويكيبيديا، اقترح الرئيس عبد الله بوكرم بين 1996 - 1997 تشكيل "حكومة من الفقراء" وهو محاط بأكبر أثرياء البلاد.
وفي بريطانيا، قاد الخطاب الشعبوي الذي لا يعتمد على الأرقام، والبحث العلمي بل على الحماسة الخادعة، الى مشروع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أوروبا، الذي آل الى ورطة كبيرة.
ولم يكن دونالد ترامب ليصل الى رئاسة الولايات المتحدة لولا خطابه الشعبوي المباشر الذي يلامس قاع المشاعر الاميركية.
وفي كل الدول، ولا يُستثنى منها العراق، فان النخب المسيطرة، نجحت في استلاب خطاب الجمهور، وصياغته بشكل أكثر تأثيرا، وجاذبية، وزوقته بالوعود، وضخته من جديد، لكبح النقمة الشعبية، وإقناع جمهور الأميين والفقراء وكل الذين يعيشون في حضيض المجتمع بانها تشاركه حاجاته ومعاناته، وانها تسعى الى اشراكه في عملية صنع القرار.
نجاح أساليب الخطاب الشعبوي، ونوافذ انتشاره وسيطرته، يُلمس بوضوح في تدوينة او تغريدة، من مواطن لم يدرس أساليب الخطاب ولا يفقه بالسياسة، نجح عبر نوافذ التواصل والتراسل الفوري، من جذب مئات الالاف من المتابعين، الذين يمطرونه بالإعجاب والتشجيع بينما تفشل أحزاب على رغم الأموال، من الوصول الى مثل هذه الهدف.