مراجعات تقويمية لعمل وزارة الخارجية الإيرانية

العراق 2019/04/10
...

جواد علي كسار
 

ارتبط بالسلك الدبلوماسي لبلده وهو لم يبلغ بعد التاسعة عشرة من عمره، فعمل متطوّعاً بقنصلية إيران في سان فرانسيسكو، ثمّ موظفاً محلياً في البعثة الدائمة لبلده في نيويورك، قبل أن يتدرّج إلى موقع المندوب الدائم. وفي جسم الخارجية نفسها عمل مستشاراً أعلى لوزير الخارجية، ووكيل الوزارة للشؤون الدولية، وكان قريباً من قلب القرار في هذه الوزارة، له انطباعاته عن شخصيات مهمة منها إبراهيم يزدي وعلي أكبر ولايتي وكمال خرازي وسعيد رجائي خراساني، وغيرهم. كما شهد عن كثب تحوّل المسار السياسي في الخارجية بين عهد رئيس الوزراء مير حسين الموسوي، ثمّ الرئيس هاشمي رفسنجاني ومن بعده محمد خاتمي، قبل أن يُطرد من الوزارة ويُحال إلى التقاعد مكرهاً، على عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، دون أن ينفعه موقف قائد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي المؤيد لبقائه في موقعه. كان له نصيبه من تجاذبات القوى السياسية وصراع الأجنحة في إيران، فأُتهم مُبكراً بـ«اللبرلة»، ثمّ عدم الثورية والأخطر من ذلك «الأمركة» حتى ألغي أمر تعيينه سفيراً في نيويورك، وأُحيل ملفه إلى «المخابرات»، وكان دائماً يتصدّر المجموعة التي دأب اليسار الإيراني على نعتها بـ«عصابة نيويورك». في هذا القسم يأخذ بنا ظريف إلى أروقة وزارة الخارجية الإيرانية، ليدلي بشهادته من الداخل ورأيه بعمل الوزارة، مضافاً إلى صور موحية عن معاناته.

بصمة اللبرلة!
يعود ظريف بالحديث إلى بداية ارتباطه بالعمل الدبلوماسي حين استجاب للسفير سعيد رجائي خراساني، ليكشف عن الاختلاف المبكر بين مسلكين ثوري وهادئ، ضربا أجواء الاتحاد الإسلامي لطلبة إيران في أميركا، مضافاً إلى ممثلية إيران في نيويورك. يذكر أنه على رغم الصداقة التي كانت تجمعهم، وحميمية العلاقة وتبادل الزيارات العائلية، إلا أنه ومنذ البداية كان هناك مساران مختلفان، فظريف ومن يتبعه على الشاكلة نفسها، يؤمنون بالسلوك المتوائم مع الهدوء واللين والإرشاد، في حين كان الخط الآخر يؤمن بالمسار الثوري الحادّ، ومن ثم كانت له وسائله الأخرى.
من أمثلة الخطّ الثوري المتطرّف الذي يذكره ظريف، هو سعيد إمامي، وسعيد إمامي هو نسيج وحده في المشهد السياسي والأمني الإيراني، وهو قصة لها فصول حاسمة وخطيرة، إذ يكفي أن نعيد للذاكرة أن هذا الطالب الثوري المتطرف، الذي كان يدرس في أميركا وهو زميل ظريف، تبوأ موقعاً خاصاً في جهاز المخابرات الإيرانية، فقد كان مدير العمليات الخاصة، اضافة إلى كونه معاون وزير المخابرات (الاطلاعات) للشؤون الأمنية. وفي زمن تصديه على عهد الوزير علي فلاحيان ورئاسة رفسنجاني، جرت عمليات الاغتيالات المتسلسلة لمجموعة من مثقفي إيران وسياسييها داخل إيران، عدا ما تم خارجها، تلك العمليات التي نفذت بطريقة إجرامية عنيفة بشعة، هزت إيران سياسياً، عندما كشف عنها الرئيس الأسبق محمد خاتمي شتاء 1998م، قبل أن تقود إلى اعتقال سعيد إمامي نفسه، المشهور بلقب سعيد إسلامي ومجموعته، ثم الإعلان سنة 1999م عن انتحار إمامي في سجن أوين الشهير، عن طريق تناول مسحوق منظف الشعر في الحمام!
هي بلا ريب، إشارة عميقة وذكية من ظريف في نقده الموحي لمنهاجية الثورية المتطرّفة وأساليبها العنيفة، حين ذكر اسم سعيد إمامي كأنموذج مبكر لها في أميركا، لأن اسم إمامي مشحون في الذاكرة الاجتماعية والسياسية والثقافية الإيرانية، بمشاهد القتل الدامي العنيف للمعارضين في الداخل من مثقفين وسياسيين، ما كان لهم سلاح سوى القلم وإبداء الآراء والمواقف على نحو سلميّ!
لا يدع ظريف هذه الإشارة تمرّ هكذا دون أن يشفعها؛ أن منهجيته الهادئة العقلانية الإرشادية التي التزم بها منذ البواكير الأولى لعمله الدبلوماسي، هي التي دفعت القوم أن يصموه ومنذ اللحظة الأولى تلك، ببصمة «اللبرلة» وطمغتها، حيث كان يُقال عنه من يومها «ظريف الليبرالي!»، والليبرالية يومذاك وفي أجواء الحماس الثوري، تُهمة كافية لحرق صاحبها، أو تهميشه والدفع به بعيداً عن خطّ السلطة!
 
منهجية الخطأ والصواب!
خبرات مهنية غير قليلة غادرت وزارة الخارجية بعد سقوط الشاه تلقائياً أو بالحذف، حتى بلغ حجم الفراغ في بعض المواقع نسبة 90%. إزاء ذلك لم يكن الكادر الجديد الذي دخل الوزارة مدرباً أو مهنياً مختصاً، ومن ثم لم يكن أمامنا كما يقول ظريف، إلا أن نتعلم كلّ شيء مجبرين، من خلال أسلوب التجربة والخطأ؛ لذلك فإن ما حققته وأمثالي وما كسبناه من خبرات، جاء بتكلفة عالية جداً؛ هي كلفة التعلم عبر منهجية الخطأ والصواب!
على سبيل المثال سادت سياسة مقاطعة إيران لمجلس الأمن لسنوات، وكانت صدى للمنهج الثوري الحادّ، على ما لاحظت ذلك منذ التحاقي موظفاً بممثلية نيويورك ربيع 1982م، وبدلاً من أن تكون هذه المقاطعة مجرّد موقف تكتيكي مؤقت تحولت إلى ستراتيجية للنظام، إلى حين موافقتنا على القرار (598)، وفي الحقيقة كان المسؤول عن هذا الموقف المتناغم مع الثورية الحادّة، هو قرار اتخذناه أنا والدكتور رجائي خراساني، منذ أول أيام التحاقي بالممثلية!
 
قاعدة حق الرد
على صعيد آخر يوجد في نظام الأمم المتحدة وقواعد عمل المؤسّسة الدولية، قاعدة باسم حقّ الردّ، فإذا ما تحدّث أحدهم عن بلدك، لك الحقّ في الردّ عليه لمدّة عشر دقائق، وفي المقابل من حقه أن يردّ على ردّك بعشر دقائق، ثمّ ينخفض الوقت إلى خمس دقائق لكلّ طرف. كنا وحدنا من يعرف قواعد وأنظمة عمل الأمم المتحدة، وما كان أحد في إيران مطلعاً على هذه القواعد عارفاً بالأنظمة، وكنا نعتقد  بأن عدم استعمال الموظفين السابقين لنا، لقاعدة حقّ الردّ هذه، يعود إلى ضعف ارتباطهم  بالجمهورية الإسلامية؛ والأمر وإن كان كذلك إلى حدّ ما، إلا أن استعمال هذه القاعدة كان بحاجة  إلى خلفية وتجربة، لكي لا ينقلب إلى الضدّ، كما حصل معنا!
ما كان يحصل يومها، أن الأوربيين يتحدّثون عن عشرين بلدا في قضية ما، كحقوق الإنسان أو غيرها، ويمرّون في سياق ذلك على إيران مروراً عابراً، فيتحدثون عنها بدقيقة واحدة. لقد كنا شباباً ثورياً متحمساً، ونبحث عن الشهرة إلى حدّ ما، لذلك كنا نعكف نحن الثلاثة؛ أنا والسيد سايروس ناصري والسيد سعيد إمامي على الإصغاء بدقة لما يُقال، ونجهد أنفسنا بتدوين الملاحظات، لكي أقوم أنا بالردّ، مستفيداً من قاعدة حقّ الردّ والدقائق العشر. بهذا الأسلوب الخاطئ المتحمّس وضعنا الملف الإيراني في دائرة الضوء، فبدلاً من ذكرٍ عابر لإيران يأتي في ثنايا موضوعات متعدّدة داخل لجنة حقوق الإنسان، لم يكن يتعدّى الدقيقة الواحدة، فتح شغفنا بالردّ على كلّ شيء، وحقّ الردّ المتاح للآخر، للتركيز على إيران والكلام عنها لمدّة نصف ساعة. وبذلك دفعنا إيران بأيدينا إلى دائرة المساءلة والنقد في لجنة حقوق الإنسان، ظناً منا هذا الفعل ضروري للدفاع عن الجمهورية الإسلامية، وما هو كذلك!
إن نظم الأمم المتحدة في الحقيقة، هي أسلوب عمل، لكن هذا الأسلوب بحاجة إلى العقلانية أيضاً، وفي ذلك الوقت لم نكن نراعي الجانب العقلاني هذا، لقلة تجربتنا، بحيث كان يصعب علينا تحضير كلام جديد نافع وسديد إلا بمشقّةٍ بالغة، بعد أن نستهلك ما عندنا بالردّ وردّ الردّ!
 
غياب التراكمية
لقد تعلمنا الكثير من هذه التجربة وغيرها، بيد أن زملاءنا الجدد في العمل، لا يريدون أن يصدقوا بأننا إذا غيّرنا وسائلنا الأدائية، فإن ذلك لم يكن بفعل عزوفنا عن المبادئ أو عدم الشعور بالغيرة على البلد، أبداً، بل يعود ذلك إلى التجارب المكتسبة، وألا نكرر الأخطاء السابقة مجدّداً. فلو كانت لدينا تجربة، ولو تصرفنا بعقلانية، لما جر موضوع إيران إلى لجنة حقوق الإنسان أبداً، ولما صدر قرار ضدنا بعد سنتين من ذلك، لكنه الوهم الذي كنا نعيشه تحت وطأة الحماس وقلة التجربة، وإحساسنا بضرورة الدفاع عن الجمهورية الإسلامية إزاء أي إهانة تتعرّض لها؛ أجل، كان هدفنا مقدّساً، لكن لكلّ عمل أسلوبه وأدواته، وقد أخطأنا!
في مواقع متعدّدة من هذا الحوار يذكر ظريف العقلانية الغائبة والتجربة الساذجة، بل انعدام التجربة، والانجرار كما يقول، إلى الوهم الذي يشعرنا بأننا نعمل بفاعلية، في حين أننا نسيء لأنفسنا ونحن نحسب أننا نحسن صنعاً، كما في الاستعمال الرديء لقاعدة حق الرد، وكيف جرّتنا مغامراتنا وأخطاءنا وشيء من حب الشهرة إلى أخطاء ضرت بالبلد. الأسوأ من ذلك عندما نحذر زملاءنا الآن بأنكم تقعون في الأخطاء نفسها التي ارتكبناها في السابق، فلا أحد يهتم لذلك، لماذا؟ لأننا في العالم الثالث وبخاصة إيران، لا نستفيد من التراكم المؤسسي، ونتعامل مع «المعلومات والمعارف» على أنها مصدر قوة وحسب، وحين لا نستطيع استعمال هذه المعلومات ضدّ الآخرين، نوجّهها ضدّ زملائنا.
أضف إلى ذلك أن الفردية وغياب التراكم المؤسّسي، يمنعاننا من نقل معارفنا ومعلوماتنا وتجاربنا إلى زملائنا، ما يؤدي إلى قطيعة مستدامة في جهازنا البيروقراطي، على حين تولي المناهج الحديثة في الإدارة العالمية اليوم، أهمية فائقة لعنصر انتقال التجارب وتبادلها.
 
اللغة كمثال!
على مدار الحوار يؤكد ظريف في جملة نقده لعمل وزارة الخارجية، افتقار جهاز هذه الوزارة في المركز والسفارات إلى المتمكنين من اللغة الإنكليزية، فعن ممثلية بلاده في نيويورك حيث عمل سنوات، يذكر أن 95 % من الموظفين الجدّد من غير المتخصّصين، لم تتعدّ شهاداتهم الثانوية، وإن تعدّتها في حالات نادرة فإلى الهندسة، والطامة أنه لم تكن لهم معرفة باللغة مطلقاً، ورئيس البعثة رجائي خراساني وإن كان يتحلى بحسٍ سياسيّ جيّد، ويتقن الإنجليزية على نحوٍ رفيع، لكنه لم ينحدر من اختصاص علمي، ولم تكن له أيّ معرفة مطلقاً بالقانون والعلاقات الدولية، فهو خريج فلسفة وحسب!
من الأمثلة التي تحمل دلالات خطيرة على هذا النقص، زيارة السيد علي خامنئي إلى الأمم المتحدة في أيلول عام 1987م حين كان يومها رئيساً للجمهورية، للمشاركة بالدورة الثانية والأربعين لأعمال الجمعية العامة. فمع أن الوفد الإيراني كان يصطحب معه مترجماً من طهران، إلا أن ظريف لاحظ أن غاية ما قد يُحسنه هذا المترجم، هو الإنكليزية المكتوبة وفق قواعد اللغة، أما المتلقي الأميركي فلا يفهم منه شيئاً على الإطلاق. أضف إلى ذلك، أن هذا المترجم الخاص الذي جاء برفقة رئيس الجمهورية، كان يجهل البيئة والمحيط والأجواء على نحوٍ كامل فتفوته ظلال المعاني ومغازي الكلام، لذلك كله رجوته أن يجلس جانباً، وقمتُ شخصياً بمهمة الترجمة! 
الأخطر من ذلك ما حصل في مفاوضات تطبيق القرار (598) في جنيف، فعلى رغم وجود هيئة ترجمة رسمية مع الوزير علي أكبر ولايتي وفريقه الضخم، إلا أنني تحملتُ مسؤولية الترجمة لولايتي، لكي أُبرز النقاط القانونية والحقوقية الحساسة على نحو دقيق وواضح.
 
مركز الوزارة
بالانتقال إلى مركز الوزارة في طهران يسجّل ظريف نصاً، أن من يُتقن اللغة الإنكليزية كان على عدد الأصابع، وأقلّ منهم من كانت له دراية بالأمم المتحدة؛ ومن كانت له معرفة بهذه المؤسّسة الدولية فعلاً، لم تكن معرفته تخصصية، بل هي على حدّ الثقافة العامة!
هكذا مضى الحال خلال العقد الأول بعد انتصار الثورة الإسلامية، لكن الوزارة بدأت منذ عام 1987م بضخ مجموعات من المتخصّصين على نحو واسع، من خلال استيعاب خريجي كلية العلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية، وربما كانت المجموعات الأولى من خريجي الدورات الأولى والثانية والثالثة، هُم الأكفأ من بقية الدورات. على أن هناك بلاء آخر ضرب جهاز الوزارة، وتفشى في سفاراتها وممثلياتها في الخارج، حين بادر عدد كبير من الموظفين الجُدد من خريجي الثانويات، لإكمال دراستهم والالتحاق بالجامعات في الخارج بغية الحصول على البكلوريوس، وقد بلغ من سوء اتساع هذه الدائرة، أن رئيس الوزراء يومها المهندس مير حسين الموسوي، بادر إلى إصدار قرار يقضي بمنع الدبلوماسيين الإيرانيين من إكمال دراستهم في الخارج. والسبب أن الواحد من هؤلاء كان يُبادر لاستغلال تسجيله في الدراسة وظيفياً، حيث كان بعضهم يتحوّل إلى سفير أو مدير، وهو لا يزال في الصف الأول من دراسته الجامعية، ولم يتقن الإنكليزية بعد.
وبذلك تحوّلت الشهادة الجامعية إلى مرقاة للوظيفة، وليس إلى وسيلة للمعرفة والرقيّ المهني، وقد كان لجميع هؤلاء غطاء في الداخل. وبهذه الوسيلة وغيرها تسيّد هؤلاء على المشهد الدبلوماسي.
يقدّم لنا ظريف مثالاً من موقع عمله في ممثلية بلاده في نيويورك، فمع أن التحصيل العلمي للموظفين الجُدد لم يتجاوز درجة خريج ثانوية، ولم يتخطّ في أحسن حالاته شهادة البكلوريوس، إلا أن هؤلاء تقدّموا عليه وعلى زملائه ممن يحظى بأعلى الدرجات العلمية والمعرفية، أمثال السادة أمير خيزي وأسدي وزماني نيا وهيئت. والمفارقة الأكبر أنه وفريقه كانوا إلى جوار مؤهلاتهم العلمية الرفيعة، يتحملون لكفاءتهم المهنية العبء الأكبر من عمل الممثلية، وفي الوقت نفسه يتقاضون أدنى 
الأجور!
 
مديح دبلوماسية هندية!
ما دام الأمر يرتبط بالمراجعة والنقد من أجل التقويم، فحديث ظريف النقدي يأتي صريحاً واضحاً ومباشراً. يعطينا وصفاً لموظفي بلده في الأمم المتحدة، على النحو التالي: لم يكن الدبلوماسيون الإيرانيون يعرفون فنّ الدبلوماسية، ولغتهم الإنكليزية لم تكن جيدة، كما لم يكونوا يتحلون بظاهر مناسب من اللباس والهيئة والترتيب. شخصياً (الكلام لظريف) ذهبتُ في اليوم الأول من عملي في نيويورك، وأنا أرتدي القمصلة (الكابشن) إذ لم تكن لديّ سترة، وبعض موظفينا كان يذهب إلى الأمم المتحدة بالسُترة العسكرية. وعندما تخلى هؤلاء عن الزيّ العسكري، إلى السترة والبنطلون، كانت ملابسهم غير نظيفة، مضطربة دون ترتيب وتنسيق، مع قمصان بياقات مفتوحة. مازلت أذكر حالي عندما شاع في مركز وزارة الخارجية استعمال القمصان بالياقات القصيرة، ضمن ما اشتهر بالياقات الآخوندية، ولم نكن نستطيع الحصول على هذه القمصان في نيويورك، فرجوتُ زوجتي أن تُبادر إلى تحوير ياقة قميصي، وتقصّر ياقاته الطويلة وتهذبها، لتكون الحصيلة ما اصطلحنا عليه بالياقة الدبلوماسية!
يضيف ظريف: عندما ذهبتُ بهذا القميص الجديد إلى مقرّ عملي في الأمم المتحدة، كانت السيّدة موخرجي ممثلة الهند جالسة إلى جواري، وهي كريمة وزير خارجية الهند يومها، وكانت تعمل وقتها خبيرة في الأمم المتحدة، فالتفتت لي قائلة: لأول مرّة تأتي إلى هنا بظاهر مرتب، وهذا أمر مهم جداً، لأن من يراك بظاهر غير مرتب، لا يعبأ بأفكارك ولا يهتم بمعتقداتك!
 
الحجة المنطقية
فإذن، كان للظاهر غير المتوائم مع السائد المألوف، دوره في إيجاد بعض المشكلات. فقد كنا مجموعة دبلوماسية وسياسية، منضبطة في نطاق رعاية القيود الشرعية، فلا مشروبات، ولا للحوم غير مذبوحة على الطريقة الإسلامية، ولا لمصافحة النساء. لكن مع ذلك ورغم أهمية أن يمنح الدبلوماسي قسطاً من الجهد للباسه ومظهره الخارجي، إلا أن المشكلة الحقيقية لانزواء الدبلوماسي الإيراني، تعود أساساً إلى عدم فاعليته، وانعدام البناء المنطقي في الموضوع، وغياب الحجة المنطقية في الموقف. فعندما لا تعرف اللغة الإنكليزية، وليس لك دراية بالموضوع الذي يدور حوله البحث، ثمّ نأتي بعد ذلك لكي نُغطي كلّ هذه العيوب والنقائص تحت عنوان الاستكبار العالمي، ونرمي بها على كاهله ونخفي أنفسنا تحت شعار مواجهة الاستكبار؛ فهنا المشكلة!
إذن ليس من الضروري أن تعتقد، بأن الطريق إلى أن يهتمّ بك الآخر ويصغي إليك ويقبل منك، هو أن تُخضع نفسك لقواعد السلوك الغربي وتتجاوب معها، بل تعود المسألة إلى البناء المنطقي، والمعرفة والدراية، وقوّة الحجة في الموضوع الذي تطرحه، عندها ستجد من يصغي ويعتدّ بمواقفك ورؤيتك، حتى لو جاءت متعارضة مع الآخرين. لذلك تحوّلت الدبلوماسية الإيرانية إلى الكفاءة والفاعلية، عندما صار الدبلوماسي الإيراني يعرض في الجلسات الدولية، كلاماً دقيقاً ناضجاً ومُفَكراً به، والمثال الكوبي مصداق جليّ، حيث استطاع هذا البلد أن يسجّل لنفسه حضوراً مؤثراً في المجامع الدولية، برغم المقاطعة والحصار.
 
الدبلوماسية متعددة الأطراف
تبقى نقطة أخيرة في رفع الفاعلية ترتبط بنظر ظريف، بالاستناد إلى ما يُطلق عليها «الدبلوماسية متعدّدة الأطراف»، فمثل هذه الدبلوماسية بنظره، هي قوّة مؤثرة للبلدان المختلفة، أو تلك التي تملك قوّة أقلّ، بشرط أن يحيط من يُمارسها بعناصر النجاح، التي ذكرها سابقاً. ما هي نظرية ظريف عن «الدبلوماسية متعدّدة الأطراف» وقدرتها الفائقة في صناعة التأثير؟ الجواب يقدّمه لنا الوزير المثير بكتابه الذي يحمل العنوان نفسه، وهو الكتاب الذي تقع طبعته الجديدة في (927) صفحة، ولستُ أدري إذا كان يحالفنا التوفيق بتقديم عرض وجيز له أم لا؟!