ميادة سفر
تمارس المجتمعات هيمنتها على الأفراد من خلال سلوكيات معينة تفرضها عليهم، من لباس ولغة وأعراف لا بد من اتباعها وإلا اعتبر الفرد منبوذاً من المجتمع، ينظر إليه بازدراء ونفور من الآخرين المختلفين عنه، بغض النظر عن صواب ما يقوم به من عدمه.
وغالباً ما تخشى المجتمعات من التغيير الاجتماعي الذي يحمل أشكالاً من التحرر الفكري، ذلك التحرر الذي سيؤثر على السلطة التقليدية التي اعتادت عليها تلك المجتمعات والتي من شأنها أن تهز أركان النظام الاجتماعي المعتاد.
لطالما لاقى أصحاب العقل الحر والأفكار التنويرية ضغطاً اجتماعياً وتمت ملاحقتهم ومعاقبتهم، لمجرد أنهم رفضوا عادات وتقاليد بالية، أو نادوا بأفكار تحرر المجتمعات وتخرجهم من القمقم الذي يعيشون فيه، وهنا لا بدّ من التأكيد على أن الأمر لم يتعلق بالمطالبة بتحرر المرأة، بل يشمل تحرر كل المجتمع نساءً ورجالاً ومن كل الأعمار، لأن أي تطلع للتغيير لا يمكن أن ينجح إذا تم استثناء فئة أو جماعة أو جنس من أفراد المجتمع، فالتغيير إما أن يطال الجميع وإلا لا فائدة ترجى منه، إذ كيف يمكننا أن نتحدث عن تغيير عادات نستثني منها المرأة، كيف نطالب بحق إبداء الرأي بينما تكم أفواه النساء عن المطالبة بأبسط
حقوقهن.
تتعدد المجالات التي تمارس فيها الهيمنة من قبل المجتمع لدرجة أنها طالت مجال الأعمال، إذ بات الكثيرون يسعون إلى الوظائف والأعمال التي تلقى قبولاً جماهيرياً وترحيباً من المجتمع، ويبتعدون عن الأعمال ذات الأجور والرواتب البسيطة لأنَّ المجتمع يعتبرها أعمالاً وضيعة وذات سمعة سيئة، إذ يفضلون العطالة عن العمل على أن يقال عنهم أنّ رواتبهم قليلة أو وظائفهم ذات مستوى اجتماعي متدنٍّ، فضلاً عن سعي البعض إلى تخصصات دراسية معينة تضمن لهم مكانة اجتماعية مرموقة تتوافق ونظرة المجتمع، بغض النظر عن رغباتهم الحقيقية والتي غالباً ما تودي بهم إلى الفشل، تلك بعض الأمثلة للهيمنة الاجتماعية التي تحمل في طياتها عراقيل في طريق الفرد تعوق حياته ونجاحه وتطوره.
إنّ سيطرة الأفكار السائدة في المجتمع على خيارات الأفراد تشكل سبباً ومبرراً لأي شخص ليعبث في حيوات الآخرين ومصالحهم، يوجههم بالشكل الذي يناسب المجتمع تحت شعار أنّ هذا التصرف أو ذاك مخالف لما اعتاد عليه القطيع ومن شأنه أن يتسبب بخلل في بنية المجتمع، وبذلك يبقى مراوحاً مكانه فيما مجتمعات أخرى تقطع أشواطاً في التغيير الذي لا بدّ منه لتطور البلاد وارتقاء شعوبها.
لا يقتصر الأمر على ما يمارسه المجتمع من هيمنة ومحاولات فرض قوانينه على الأفراد، بل إنّ الفرد بات مقيداً إرادياً بما هو سائد، وأصبح يراقب سلوكه وتصرفاته الخاصة ويلزم نفسه بأعراف مجتمعه، واحترام النمط الاجتماعي المحيط به، ويحاول ألا يخرج عليه خوفاً من الوقوع في الخطأ الاجتماعي الذي يعرضه للنقد، وبتنا نمضي أغلب أوقاتنا ندوزن كلماتنا وتصرفاتنا ولباسنا على إيقاع العرف الاجتماعي.
أشار عالم الاجتماع الفرنسي إميل دور كايم إلى "مؤسسات المجتمع وهي تمارس هيمنتها، من خلال الرفض والمنع التي اعتبرها أدوات المجتمع الثقافية الرمزية للهيمنة"، فقد اعتمدت في أغلب المجتمعات ثقافة التصنيف وفق معايير محددة بين الخطأ والصواب والحلال والحرام، والتي شكلت قيوداً إضافية على أفرادها، وعلى الرغم من أنّ الثالوث المحرم (السياسة والدين والجنس) لم يعد محرّماً بشكل كبير مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي اتاحت الحديث بكل حرية لمن يرغب، إلا أنّ ما يمارس على أرض الواقع يبدو مختلفاً، إذ ما زالت المحظورات كثيرة والمحرمات متعددة، وبقيت هيمنة الجماعة مستمرة لا سيما في بلادنا التي تعاني شعوبها من أشكال كثيرة من الكبت والحظر
والتضييق.